الاستفزاز قديم قدم قصّة قابيل وهابيل في الكتب السماويّة., ثمّ إنّ جذره اللغوي يعود إلى فعل (فزّ) أي قام على غير عادته ودون تفكير مسبق، على إثر نداء مستعجل بقصد التعبير عن غضب أو نجدة أو نداء....أو المجاهرة برأي مخالف.
أمّا المستفزّ (بكسر الفاء) فهو فاعل (لغة)...ومفعول به على مستوى المعنى والمبنى... والفرق واضح وجليّ بين القالب والمحتوى.
هذا إذا أخذنا الاستفزاز على المحمل الاجتماعي المتداول لدى الناس والذي تسبّبه العداوات الشخصيّة والنزعات العدوانيّة المتأصّلة في بعض النفوس الأمّارة بكل شيء.
أمّا الاستفزاز الإبداعي الأجمل, فهو ما يفعله بك الجمال حين يصرخ في وجدانك هامسا:(هات بمثله إن كنت من القادرين).
ساعتها، ترتبك الحواس وتعلن لحظة الاستعداد للتحدّي في سباق لاتنافس فيه إلاّ نفسك.
لست أدري لماذا تذكّرت ما قيل عن كنيسة بناها أحد المعماريين الإيطاليين وكانت غاية في الروعة والإدهاش في ساحة تعرف إلى حدّ الآن ب(الأنهار الأربعة).
جاء نحّات فاستفزّه بتمثال يقابلها ويميل إلى الخلف في إشارة تحمل بعض السخرية والاستخفاف، فردّ عليه الأوّل بإضافة تمثال لأحد القدّيسين في أعلى المدخل يرفع يده وينحني قليلا نحو الأسفل...وكأنه يصدّه، في حركة لا تخلو من الطرافة و(الاستفزاز) الفنّي المعروف لدى فنّاني روما.
ساعتها، خمّنت، لماذا سمّيت هذه الساحة بالأنهار الأربعة، دون أن أسأل مرافقي الإيطالي عن أصل التسمية....وربما كان الجوا على غير ما ذهبت إليه.
جلست وأخذت نفسا عميقا, مستنشقا عبق هذا الإدهاش الذي تغذّى ممّا رفده الأجداد الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهم لهذه الحضارة المعجزة التي قامت على المنافسة والتحدي والاستفزاز، في أروع تعريفاته.
تذكّرت (رسالة الغفران) التي ألهم فيها المعرّي قرينه(دانتي) رائعة (الكوميديا الإلهية),تذكّرت ما شاهدته من مخطوطات لكتب ابن رشد والادريسي وحسن الوزّان في متاحف هذه المدينة....وأدركت عندها أنّ المستفزّ (بفتح الفاء)، يجب عليه أن يكون مبدعا....أو فليصمت مثل كظيم ينام على غيظ.
لم يتطوّر أدبنا القديم إلاّ عبر لغة (الاستفزاز الجميل )، منذ الفرزدق وجرير، مرورا بمعارك المتنبّي وأبي فراس الحمداني....ولكن,ليس وصولا إلى ما نحن فيه من تراشق الشتائم، والذهاب إلى الدرك الأسفل من الانفعال والشتائم والصحافة المصفرّة حقدا وتزويرا.
كبا فنّنا وأدبنا وفكرنا بعد أن فقدنا الاستفزاز الجمالي وذهبنا إلى ما هو شخصي وتآمري....وكاسر لمجاديف الإبحار نحو جزر المعرفة والتفوّق.
أيها الذي يسفح وقته في قراءة صحافة الشتيمة وكتب الحقد الأعمى, ما ضرّك لو وقفت عند إبداع الناس وأفعالهم قبل التوقّف عند سلوكياتهم ونزواتهم، مثل تلك التي تكتبها الأقلام الحاقدة وتبثّها الشاشات المشوّشة.
المشكلة أنّ جلّ ما نكتبه، يعمد الآخرون إلى لوي عنقه في اتجاه الثالوث المحرّم في بلادنا العربية.. وكأنّ القارئ قد تحوّل إلى رقيب أشدّ قسوة من رقيب ما قبل الطباعة، فصار الكاتب أشبه بطبّاخ مغلوب على أمره، يطهي وفق مزاج زبائنه دون قناعة منه.. ودون تذوّق ممّا يأكلون....ولا يأكلون.
اسمحوا لي بأن أنهي بهذه الحادثة المحيّرة:, عند ثلاثينيات القرن الماضي كتب المصلح الاجتماعي التونسي كتابه (امرأتنا بين الشريعة والمجتمع), مدافعا عن حقوق نصف المجتمع، بل غالبيته.
كتب أحد المتعصّبين كتابا في الردّ عليه بعنوان: (الحداد على امرأة الحدّاد), وبعد مقدّمة طويلة من الشتائم، ذيّله بعبارة: (هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب).....!
بربّكم, أليس هذا
hakemmarzoky@yahoo.fr