شغلتني الموسيقا منذ حداثة سني، وكانت بمشاعري عبادة بحق، أقول صعدة وتعبد،
أصغيت إليها منذ طفولتي، وطربت لأدائها، هل بتأثير جرسها، أم بسبب أشعارها الموزونة، ومعانيها وتعابيرها والأصول التي بنيت عليه؟ أم بتأثير المحيط الذي عشت وترعرعت وتربيت؟ حالفني الحظ منذ نعومة أظفاري أن أعيش الطرب الذي كان والدي يعبران عنه، بسماعهما للأصالة الشرقية من مطربين يرتادون البيت، يغنون ويعزفون القصائد الموزونة.. عن ظهر قلب..
ها هو «أبو هاشم» ذو شهرة وعن استحقاق يعزف على العود، واضعاً طربوشة، يغني القصائد ذات أجمل معنى، ومبنى، يرافقه أحياناً، من يسير في ركبه.. من هواة المدرسة الموسيقية الشرقية ( دون مدرسة فعلية بمفهومها الحالي)، وهي جوالة بين الهواة ومحبي القصائد والجرس الموسيقي الأصيل.. أما الطربوش فلا يستغنى عنه حتى ولو استمر الغناء والعزف لساعات طوال، ويتحول بأصابع الموسيقار تارة إلى الأمام وطوراً إلى الوراء.
لم يكن صوت النافورة التي تغذى البحرة تزعج المطرب والمستمع.
أبو هاشم يلتف حوله الحضور «الذويقة» فينضم إليه غناءً وطرباً، وأكلا وشرباً.. لكونه محبوباً من المستمعين القلائل آنذاك.
صورة لم تبرح ذهني، وعيتها، وكنت أعجب بوالدي « أبو زهير» إذ كان يترنم والحضور مع أبو هاشم مطرب الخاصة.
وهذا الواقع جعلنا في طفولتنا ويفاعتنا، نحب الموسيقا الشرقية، ونتذوق الغناء ومعاني القصائد لكبار الشعراء القدامى.
أما الموسيقا الكلاسيكية - العالمية- لكبار المؤلفين العالميين، فلم تكن معروفة إلا عند القلة القليلة في الأربعينيات من القرن العشرين وكان لابد من بناء جسر لها بين الشرق والغرب.
أعود بالذاكرة إلى أوائل الأربعينيات، فأستعرض ملامح من التاريخ البعيد نسبياً للموسيقا الكلاسيكية والعالمية سائرة باتجاه النصف الثاني من القرن العشرين.
هذه، كانت في تلك الحقبة محصورة بعدد من الصالونات العائدة لعلائلات تتمتع بمستوى ثقافي موسيقي فني متطور وبعضها ميسور آنذاك، فعمدت إلى توجيه بناتها بصورة خاصة لتعلم الموسيقا والنوطات والعزف على البيانو، على يد القلة القليلة من الأساتذة المختصين لقناعتها أنه بالموسيقا والعزف تكتمل شخصية الفتاة، وتتبلور بينما كانت عائلات غيرها ترسل بناتها إلى بيروت، سائرات في رحاب الموسيقا والغناء العالميين.
كيف كان الوضع في لبنان؟ بيروت خاصة.
لم يكن يختلف كثيراً عما كان عليه في دمشق، إذ تأسست جمعية الموسيقيين للهواة عام 1937 برئاسة الموسيقار اللبناني المبدع «ألكسي بطرس»، وكان هدفها نشر الموسيقا الكلاسيكية وتعليمها.
شرعت الجمعية المذكورة بإعطاء الدروس في مدرسة «الأهلية» في «وادي أبو جميل» بإدارة السيدة «وداد قرطاس».
كونت الجمعية جوقة خاصة بها وفرقة موسيقية ذات مستوى رفيع، تأسست بعدها الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة عام 1943.
وافتتحت مدرسة الموسيقا بإدارة «نقولا دال» أول حفلة لها أحيتها جوقة أكاديمية وفرقتها للأوركسترا كانت عام 1948 مكرسة للموسيقار المؤلف العالمي «بتهوفن» وقد قدمت أوركسترا الآكاديمية وجوقتها 99 حفلة موسيقية في بيروت والقدس والقاهرة واسطنبول..
أما في دمشق فكان بعض الهواة، قلما يذكر محترفون أو آكاديميون..
أذكر في يفاعتي كانت الشابة «روزالين ملوك» عازفة بيانو موهوبة، وعلى سبيل المثال، لا الحصر ثلاثة من عائلة «عبسي» «نجلاء» عازفة موهوبة و«روز، وإيمي» مدرستين قديرتين، وعازفة الكمان «آرميناك بوياجيان» و«سوناءونابيديان».. وغيرهن.
وفي الخمسينيات استاذ «كوستا نتينيدس» استاذ الكمان والغيتار. في مدرسة التجهيز الأولى للبنات تدربنا في أعوام 1946- 47/48 على قراءة النوطات الموسيقية، على يد «ميمي الوفت»، وقبلها في مدرسة الآسية كانت المعلمة «روزين خوري» ترافق على البيانو التلميذات في الأناشيد الوطنية والمدرسية.
أذكر لماما في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات المعلم الروسي المبدع «البارون Belling» من روسيا البيضاء، الذي أقام في دمشق وعلم العزف على البيانو لعدد محدود جداً من الموهوبين، وممن ساعدتهم الظروف لاقتناء آلة بيانو.. وكان أحيى حفلات مسائية وسهرات راقصة، بينما كانت ابنته «تامارا» الشابة الجميلة آنذاك تدرس البالية والرقص لشبان ولشابات على الأصول والإيقاع. وبسبب جمالها وموهبتها تسارع الشباب لتعلم الرقص.
هكذا كنا مع الموسيقا الكلاسيكية في دمشق، إذ كانت محصورة بقلة قليلة من الموهوبين.
أما الموسيقا الشرقية فكانت كما في محيطنا: العزف على العود والغناء والطرب داخل جدران البيوت وفي صحن الدار العربية، وخاصة في الاستقبالات النسائية والمناسبات المفرحة.
في عام 1961 تأسس المعهد العربي للموسيقا ويعود الفضل الكبير لتطور المعهد ونجاحه إلى الأستاذ صلحي الوادي. ومن الطبيعي أن نعترف أيضاً بفضل رفيقة حياته الفنانة عازفة البيانو الموهوبة سينثيا الوادي.
هل نقول أن وراء كل عظيم امرأة عظيمة؟؟
من «صلحي الوادي» عراقي المولد والنشأة. الابن الوحيد لأمه السورية. تخرج وزوجته في عام 1960 من الأكاديمية الملكية البريطانية للموسيقا، عرفته في عنفوان الشباب في مطلع الستينيات، مندفعاً للعمل، دؤوباً، لايكل ولا يمل، مرهف الحس والمشاعر.
في مطلع الستينيات كان المعهد الموسيقي الذي أسسه الوادي بتكليف من وزارة الثقافة آنئذ، محدود الجدران، بناء سكن عادي، مساحته تتسع بالكاد للأساتذة والطلاب بعددهم الضئيل جداً.
كان الوادي يسبر الطفل الراغب بالانتساب للمعهد.
فيكتشف الموهبة الحقيقية، إذا وجدت، أو يكتشف عكسها، فلا يتردد من رفض الطفل مهما كانت الظروف المحيطة، وحتى لو كان من أقرب الناس إليه، أو واسطته عالية المركز أو من الوجهاء.
عرفت المعهد الموسيقي منذ نعومة أظفاره، رافقته يكبر ويترعرع بجهود صلحي الوادي والأساتذة الموهوبين: سوريون وأجانب وخاصة الآتين من روسيا، انبثق عن المعهد، المعهد العالي للموسيقا، صرح فني ثقافي كبير، يجاري الكونسر فاتوار في العالم.
لا شك أنه كان للجهود المبذولة والتشجيع والتسهيلات والدعم المالي والأدبي التي تلقاها المعهد من رئيس البلاد المغفور له الرئيس حافظ الأسد شخصياً وبمساندة وزارة الثقافة، أثرها الكبير، كما يعود نجاح الصرح الموسيقي إلى الخبرات الأجنبية التي بذلت جهداً كبيراً إلى جانب المختصين السوريين القلائل في تلك الآونة.
في عام 1962 كانت الحفلة الأولى على مسرح القباني، وصالته تتسع لـ 250مستمعاً أو متفرجاً وصرح الوادي آنذاك قائلاً: رحنا نرجو الناس للمجيء والاستماع طبعاً مجاناً.
أما المعهد العالي للموسيقا فقد افتتح عام 1991 ولم يكن ثمة معهد آخر في البلاد العربية يوازي المعهد المذكور.. وكان منذ ذلك الحين مجهزاً بكل المتطلبات لتعليم الموسيقا، من عزل للصوت، آلالات اللازمة للتدريبات الأوركسترالية، 38 قاعة مجهزة بالآلات الموسيقية، النحاسية، النفخ الخشبية والإيقاعية، آلة الهارب الباهظة الثمن.. الخ.
وقد قدم أول عرض للجوقات الغنائية (الكورالات) أوبرا، بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني في مسرح تدمر وفي مسرح بصرى الشام، (15 ألف متفرج)، وتم استضافة كبار الموسيقيين العالميين لقيادة الأوركسترا في المعهد: من فرنسا، من سان باولو، ومما لا شك فيه أن الخبرات العالمية ساهمت في رفع سوية الأوركسترا كما صرح لي آنذاك الأستاذ صلحي الوادي.
قدمت أوركسترا المعهد حفلات في الجامعة الأميركية، في اشبيليا، اسبانيا، وفي بلدان عربية وأوروبية وأميركية، والفرقة الموسيقية والانشاد قدمتا عدداً من الحفلات في الكاتدرائية المريمية في دمشق.
عاش الوادي بأمل كان قد نقله إلينا: «إن عمل اوبرا على جانب كبير من الأهمية كان سيقدم في السنة قبل الأخيرة من القرن الماضي، في دار الأوبرا.. لكن أمله لم يتحقق إلا لاحقاً بعد أن حال المرض دون تحقيق الأمل المنشود ودون تمتعه بالحدث التاريخي: «افتتاح دار الأسد للثقافة والفنون».
شهادات من شخصيات موسيقية عالمية: «ادوار ميلكوس».
أعرب عن سعادته بالتعرف على الأساتذة السوريين والأجانب وخاصة صلحي الوادي عميد المعهد، وقائد الاوركسترا، لاخلاصهم للعمل وقد «أوصلوا الفرقة إلى مستوى تفخر به سورية» وهي خير سفير لها.
أما «أحمد الصعيدي» فقال: «الفرقة، كانت مفاجأة لي ولم أتوقع أن أجد في دمشق فرقة قادرة ومدربة تقدم أعمالاً محترمة».
حين أذكر «صلحي الوادي» وقد عرفته جيداً، أذكر وأقدر الإنسان الذي جاهد وأسس وشيّد، وفضله قائم على التطور العلمي الثقافي الفني في سورية.. هذا التطور هو الصوت المرتفع والوجه الحضاري لها.
هذا العمل الدؤوب والناجح استوعب الموهوبين من أولادنا، و أتاح لهم تحقيق آمالهم وأحلامهم، وجعل من بعضهم عبقريات موسيقية منهم: غزوان الزركلي، كنان بشار العظمة، «ميساك باكبودريان» ( قائد اوركسترا) همسة صلحي الوادي، ماريا أرناؤوط، ديما أورشو، لبانة قنطار، بيير خوري، زيد جبري، وحسان طه.. الخ.