ومن منا لايتقن الإنصاف إلى أماكنه الحبيبة التي عاش فيها وشكلت ذاكرته وهويته وذائقته الجمالية؟
الأماكن، هي الأوطان،
وهي الذاكرة التي تتكدس فيها اللغة الروائح والوجوه والزمن الذي نحاول استعادته كلما ابتعدنا عنه وكنا نبحث عن (الزمن المفقود) نبحث عن الأماكن علها تعيد لنا ذلك الزمن فتعيد بذلك أطفالاً يمشون في وديان الشقاء.. حفاة يأكلون حبات البطم أو يقطفون قرون الخرنوب الحلوة من أشجار منسية في المنحنيات.
والأماكن المستعادة.. هي استعادة لمقاعد الدرس الأولى وعصا الأستاذ الأولى وهي أولى رسائل الهوى وأول مقاطع السؤال وهي تشكيل للمسافة البعيدة بين عتبة المنزل- عتبة الأم- وعتبة الفراق الذي يبدأ بين عتبات المدرسة والمنزل وما بين العتبات تمر عتبات الزمن وعتبات السفر وعتبات النسيان والانشغال والبحث عن عالم نشكله على هوانا بحيث نركض لاهثين إلى الأمام.. والأمام يغري ويوقعنا في ملذات الاكتشاف الذي يشعرنا بالتفوق ويدفعنا لارتداء وجوه غير وجوهنا وامتطاء أخيلة غير التي كنا نجري خلفها فتتغير لغتنا وتتغير أشكالنا الخارجية وأعماقنا الداخلية ونشعر بالتعالي على أماكن الصراخ الأولى حيث الحارات الصغيرة والأزقة أو القرى المهرولة باتجاه الأيام الغامضة.
وفي غمرة اندفاعنا نحو الأمام ننسى أن نلتفت إلى الوراء بل يصير من العيب أن نلتفت إلى الخلف وكأننا جئنا من عدم أمامي لاجذور له.
حتى في عالم الكتابة كثيراً ما يعيبونا على الذي يتلفت إلى الوراء وكأنه يقصد بذلك الركود الوقوف والتحول إلى الثبات المفزع.
وبالفعل الثبات يفزعنا وقدرة الإنسان على، التحول هي قدره إيجابية ولكن ليس التحول إلى الخراب الذي يقطع الأوشاج مع الجذور ومع الهوية.. مع التاريخ والجغرافية والتراث.
لنتحول.. لا بأس ولكن كلنا في لحظات التأمل والخوف نلجأ فوراً إلى الأماكن التي شكلت بداياتنا ووجودنا وسمعت أول ندائنا حيث نشعر بالأمان والطمأنينة وحيث تبدأ الذاكرة بالبحث عن قهوة الأمهات وخبز الأمهات ورائحة بيوت الجيران والحنين إلى ملامح الوجوه التي كانت ثم عبرت ثم ضاعت في زحمة الحياة لهذا نجد أن معظم مشاهير العالم الذين ارتحلوا وسافروا وتذوقوا طعم أماكن أخرى ربما كانت الأجمل والأروع لكنهم في النهاية يوصون بعودة رمادهم إلى أماكن الطفولة سواء في القرى أو في المدن ولن أنسى ذلك المهندس السوري الأميركي الذي قابلته في أميركا حيث أخبرني أنه سيحمل رماد أخيه من شيكاغو إلى صدد لينثر رماده على حقول القرية وعلى قبر أمه تحديداً.
وكلنا يعرف أن الشاعر الكبير أدونيس وبعد عمر طويل قد جهز مثواه في قريته قصابين على الرغم من تجواله الكوني لكن يبدو أن كل الأماكن في لحظة ما تصبح ضيقة وغريبة وموحشة وتبقى أماكن الأمهات والطفولة هي الأكثر دفئاً ورأفة وبراءة وكم من الأماكن حملها الكتاب في رواياتهم، وكم من غصات الفراق حزت في قلوب كثيرة لم تتسع لهم فسحة الحياة للعودة.
إنها أماكننا الأولى.. أمهاتنا.. نسترجعها ونسترجع أنفسنا أو نعود من خلالها من سفر بعيد بعيد ولهذا نصاب بالخيبة عندما نرى التبدل والتحول في أماكن الطفولة.
نريدها أن تبقى كما هي.. جرن (البنان الذي يحمل جرة الماء).. المصطبة تحت شجرة التوت والنهر الجاري بأسماكه الصغيرة وضفادعه الخضراء وبئر الماء ونساء القرية بثيابهن الطويلة الزاهية.. ( ومنقلة الحصى) ودروب الديس وغبار طرقات يتطاير ويحط على ثمار التين الذائبة في سكرها..
هذه هي لغة الأماكن وهذه هي الذكريات.. قد تكون مرة وقاسية ولكن عندما تهمس لنا ننصت وقد نبكي وربما لانريد أن نعيشها مرة أخرى ولكنها رصيد الذاكرة ورصيد العاطفة ولا يمكننا العيش دون الإنصات إلى غنائها السري.
anisaaboud@hotmail.com