أدباء المهجرين منذ مطلع القرن العشرين، حين تبلور الأدب المهجري في الاميركيتين، وأصبح ظاهرة عالمية فريدة من نوعها مازلنا نتغنى بها، كما تغنينا بالاندلس.
ومن هذه الظاهرة التي يمكننا أن نعد مجموعة أسماء حفرت بصمتها مثل جبران ونعيمة، بعد ذلك تكاد هذه الحفريات تساوي الصفر إلا عند من عصم ربك، لم تتوقف الهجرات، بل زادت لكن المهاجرين لاسيما العاملين في حقل المعرفة، لم يكونوا خير سفراء لفكر اوطانهم، والأمثلة مازالت شاهدا على ذلك، لن نذكر أسماء، فالكل يعرف أن مشاريعهم كانت فردية أنانية وصغيرة وضيقة.
وحده ادوارد بديع سعيد يخرج عن هذه القاعدة، ويمثل ظاهرة لايمكن لأي قارىء أو متابع أو ناقد إلا ويقف عند حضورها الطاغي الذي استطاع أن يفكك منظومة نقشها المفكرون الغربيون عبر قرون، لم يفككها وكفى، بل استطاع أن يثبت خطلها، ويعيدها إلى جذورها، ولاسيما الاستشراق، وكتابه المهم هنا معروف جدا.
مرت منذ أيام ذكرى وفاة ادوارد سعيد وعلى حياء وخجل كانت بعض الإشارات اليه، الجديد في هذه الذكرى أن دار صفحات بدمشق التي يديرها الاستاذ يزن يعقوب، قامت بإصدار كتاب ثان عن ادوارد سعيد فبعد الكتاب الاول الذي صدر العام الماضي وجاء تحت عنوان:الانتفاضة الثقافية ويأتي الكتاب هذا تحت عنوان: إدوارد سعيد الأنسني الادريكالي، في أصول الفكر مابعدالكولونيالي، تأليف: فريد بوشي، ترجمه الى العربية الدكتور محمد الجرطي، وقدم له الدكتور إدريس الخضراوي.
كما اسلفنا الكتاب بحث معرفي معمق في فكر ادوارد سعيد ومساراته التي حفرها عميقا في العالم، واستطاعت أن تغير مفاهيم وقناعات كبرى بما قدمته من قراءات تحليلية.
مثقف كوني
يرى صاحب التقديم للكتاب: أن ادوارد سعيد صاحب ثقافة موسوعية ومعرفة ثاقبة بالتراث الغربي والعربي، ما أهله ليكون وجها من وجوه الثقافة الكونية، فلم يكتف بخلاف بعض الدارسين بنقد الخطاب الغربي، وتفكيك مركزيته وافتراضاته العنصرية إزاء الآخر، بل اتجه كذلك إلى تأسيس خطاب بديل، بالذهاب إلى ما هو أبعد من الحدود التي توقف عندها ميشيل فوكو متمثلة في تعيين استراتيجيات الهيمنة والعلاقة المتداخلة بين السلطة والمعرفة، وذلك باستدعاء المقاومة واستكشاف مواقع الرد والرفض، وبهذا المعنى تكتسب جهوده الفكرية والنقدية قيمتها وفرادتها، لأنها تفتح مساحات جديدة أو فضاء ثالثا أمام المهمشين، بما يتيح لهم بلورة خطاب مضاد يحررهم من قبضة مضطهديهم.
لم يتوان سعيد عن النضال ضد الحدود التي تقسم الانسانية، وتعمل على اضفاء التوتر على علاقاتها مستبدلا بها نزعة كونية جامعة تتعين بوصفها الترياق الفعال لمعالجة أعطاب الراهن،وأمراضه المستعصية، لأن الثقافات من طبيعتها الهجنة وتأبى الصراع.
فكر هجين
ربما يرى البعض أن مصطلحا هجينا هنا ليس مناسبا، لكنه جاء للدلالة على القدرة والتمثل واستيعاب الآخر ومن الخلاصة التي تأخذ من الثقافات كلها، يقول سعيد: مع هذا العدد الكبير من التنافر, تعلمت في حياتي أن تفضيل البقاء خارج المكان ليس أمرا صحيحا تماما, فثمة تمزقات في حياة وسيرة ادوارد سعيد، الفصل بين اللغة العربية لغته الأم والانكليزية، لغة دراسته التي ستصبح بعد ذلك أداته في التعبير العادي كأي أديب، كان يتكلم باللغتين (كلما نطقت جملة بالانكليزبة، اشعر أني ابحث لها عن صدى عربي، والعكس بالعكس)، المنفي والمثقف (الهجين) شعر على الاغلب أنه خلال فترة كبيرة من حياته أنه خارج المكان، كان يتوجب عليه الانتظار لبلوغ الخمسين من عمره حتى يشعر أنه أقل انزعاجا بهذا الاسم ادوارد الملتصق بالاسم العربي (سعيد) وهو المولود في القدس 1935 م لكنه قضى طفولته في القاهرة، شكلت العائلة التي نشأ فيها مزيجا، اكتسب الجنسية الاميركية من ابيه، وكان يعرف كما يقول الكثير عن أي شيء ما عدا الوطن العربي (علموني أني فتى انكليزي، فقد علومني ايضا أن افهم أنني فتى غريب آخر غير اوروبي, وعلمتني التربية التي تلقيت أن أفهم وأعي مكانتي وأن لا أطمح لأن أكون بريطانيا).
لقد استطاع ادوارد سعيد فيما بعد أن يفكك خطاب الغرب المستعلي، ولاسيما الاستشراق، والكتاب الجديد الذي نتحدث عنه قراءة مهمة في فكره يكمل كتاب الانتفاضة الثقافية، نذكر من عناوينه:مسار مثقف ذي فكر هجين \النص العالم والسلطة\ تمثيل العالم العربي\ الاستشراق الحديث والمعاصر\ الامبريالية السلطة الثقافة\ الثقافة, السياسة والمقاومة.
بقي أن نشير إلى أن الكتاب يقع في 300 صفحة من القطع الكبير، وصدر بدمشق عن دار صفحات.