تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


صُنـــع بســـــحر

ثقافة
الأثنين 8-8-2011
حكيم مرزوقي

صبا، نهوند، عجم، بيات، سيكا،، حجاز، راست... أو ما عبّر عنه العرب اختصارا بعبارة (صنع بسحر).

هل تتخيلوا مدينة تمتلك تقويما صوتيّا للأيام وأوقات الصلاة، يستفيد منها المكفوفون والمسنّون.. إنها القيروان التي كان يرفع فيها الآذان حسب المقامات الموسيقية.... وكأنّما هي روزنامة للمكفوفين.‏

أعلنتها اليونسكو عام 2009عاصمة للثقافة الإسلامية، أعتقد أنها عاصمة لكل شيء.‏

قال عنها ابن رشيق: إنها مدينة لا تنجب إلا شاعرا أو مجنونا.‏

هي التي ورثت مجد الأندلس، حاصرتها قبائل بني هلال، وهي التي نشأ فيها صاحب: (يا ليل الصبّ متى غده)... الحصري القيرواني، الكفيف الذي عارض قصيدته مئات الشعراء وأشهرهم أحمد شوقي فيما غنّّاه عبد الوهاب (مضناك جفاه مرقده)، لكنّ رائعته ظلّت عصيّة على التقليد. لذلك ليس غريبا أن يكتب القيروانيون قصائد شعرائهم المحليين والزائرين بماء الذهب ثم يعلقونها على أسوار مدينتهم، لقد فعلوا ما لم يفعله عرب الجاهلية على حد قول نزار قباني.‏

ليست غايتي أن أكتب عن القيروان، فأنا لست وكيلا أومندوبا  أودليلا سياحيا  لكن القلب يعشق كل جميل.‏

وعلى ذكر (بيرم)، (كاتب تلك الكلمات) كتب لي قريبي الذي يعيش في بلاد الاغتراب (لاأظنه يشعر بالغربة): لماذا قدّر لنا أن نتحدّث  ونكتب بلغة غير تلك التي نشأنا عليها... هل هي لعنة الأجداد؟!‏

تذكرت  بيرم الذي خرج من معطفه صلاح جاهين ونجيب سرور وفؤاد نجم والأبنودي وجمال بخيت مع أنّ عائلته قادمة من بلاد بعيدة عن أرض الكنانة.‏

تذكرت كل الذين غادروا إلى غير بلادهم - مثل الطيور الباحثة عن الدفء - ثم أبهروا وأمتعوا لأن الإبداع لا يعترف  بالهويات الورقية والحدود المتحرّكة.‏

تذكّرت جبران الذي أقيم له تمثال في الولايات المتحدة قبل بلدته (بشرّي)، وسينغور الذي جعل لإفريقيا  مقعدا دائما في الأكاديمية الفرنسية،‏

تذكرت كل الذين أحببتهم وتعلّمت منهم: الزبائن الظرفاء في محل (فريدي)الذي ابتلعه شارع الأكل إلى غير رجعة، البدوي الذي يعتق طيره الحر بعد سنوات من الصيد والحطّ على معصمه، المطران  الذي يدعو للذهاب نحو الآخر حتى لو اعتنقت عقيدته، عبد الرحمن الكواكبي وكتابه ... ابتسامة جارنا البقّال في الصباح.... وعبوسه عند آخر الشهر.‏

تذكّرت صديقي الموريتاني النحيف والرقيق كالوتر.... الوفي كالمطر، يدفن ظهر هذا اليوم في أحد مقابر دمشق مثلما يحنّ العود إلى أصله.... فلا يكاد يكتب نعوته ويمشي في جنازته إلاّ هوبنفسه..... بعد أن مشى في جنازات كل الذين عرفهم.‏

الأشياء التي نحبها والأشخاص الذين تعلمنا منهم لم يعودوا كثيرين، نعم، كلما قلّ المحبون كثرت أوراق الدفاتر والمذكّرات والتنهّدات، صرنا مقراً للأصدقاء كما كان يقول محمد البخاري  لذلك أستمع الآن إلى ما قاله بيرم على لسان الست: (كنت ابتعد عنّو ويقلّي مسيرك يوم وتجيلي).‏

وأقرأ في دفتري:‏

أنت المرأة التي أوقفت القطار بإشارة من إصبعها، أمّا القطار فهو أنا.‏

أنت المرأة التي أيقظت نرجسيتي  وجعلتني أبحث عن اسمي كل صباح في صفحة الكلمات  المتقاطعة... والوفيات.... أنت امرأتي المستحيلة.‏

رحم الله البخاري، ذلك الذي يشبه خطّ دخان في مبخرة دمشقيّة.‏

hakemmarzoky@yahoo. fr‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية