لم يسبق لأحد منّا أن لم يدخر في حياته، بدءاً من استخدام حصالة النقود، وصولاً إلى الودائع المصرفية طويلة الأمد. ومع ذلك، لا يمكن أن ندّعي أن ثقافة الإدخار حاضرة.سياسة حياتية
هل ندخر، لمن ندخر، ومتى ندخر؟ أسئلة يحدد ناصر علي 24سنة (موظف، متزوج، وأب لطفل واحد) أجوبتها من خلال الحديث عن التوازن المالي الذي لا يجد في تنفيذه أمراً صعباً، فيقول: «إنّ الإدخار هو عبارة عن سياسة حياتية تبدأ مع بداية الحياة الزوجية، فيقوم ربّ الأسرة بتقسيم راتبه وتحديد أولوياته، وإدخار ما يتبقى من الراتب»، مستنكراً أن يقال «إنّ الوضع المادي للفرد عائق بينه وبين الإدخار». لماذا؟ يجيب: «لأنّ الفرد
نفسه، هو مَن يحدِّد طريقة حياته تبعاً للمثل القائل: «على قدّ بساطك مد رجليك». لهذا، فحين يقسم رب الأسرة راتبه بشكل بعيد عن التبذير، يصبح من السهل أن يدخر لأبنائه ولمستقبلهم».
تخطيط
حسن (موظف إداري ومتزوج) الحديث عن الإدخار، فيراه «سياسة أناس يتميّزون بحسن الإدارة، والصرف والتخطيط، حيث لا ينجح إدخار من دون تخطيط، ولا يأتي تخطيط من دون حسن إدارة». لهذا، يربط حسن بين الإدخار وبين شخصية المدخر، «لأنّ الشخصية المبذرة لا يمكنها أن تكون شخصية المدخر، والعكس صحيح»، بحسب ما يقول. ويدرج حسن الفوائد التي يعود بها الإدخار على العائلة، من دون أن ينسى بالطبع وضع الدخل المرتفع شرطاً لذلك، فيقول: «يشكل الإدخار منطقة آمنة للعائلة، فيحميها من مفاجآت المستقبل بكل الإحتمالات السلبية الواردة، ناهيك عن الراحة النفسية التي يزرعها في نفوس أولياء الأمر»، لافتاً إلى أنّ «الخوف على الأبناء من الناحية المادية، يعكر صفو الحياة الزوجية، ويسمح للقلق بأن يحل محل أجواء أخرى في البيت». ويشير إلى أن «بداية الحياة الزوجية هي الفترة الذهبية للإدخار، حيث يتحكّم الزوجان في تحريك دفة الصرف بعيداً عن أي مسؤوليات لا يمكن الفرار منها مهما بلغ حجمها». وفي ما إذا كان يعتقد أنّ البنوك تلعب دوراً إيجابياً في دفع الناس إلى الإدخار، يجد حسن أن «سياسات البنوك في حفظ أموال الأفراد، تمثل حلاً للفرد، الذي لا يملك القدرة على الإدخار من
تلقاء نفسه، مشيراً إلى أنّ «هذا الحل قد يعتبر في النهاية حلاً فعالاً، لاسيّما أنّ البنوك صارت تدرج عشرات التسميات للإدخار، خاصة في ما يتعلق بمصاريف الجامعات، أو التأمين على الحياة».
إمكانات
هل عزم الأفراد على الإدخار يكفي لتحقيقه؟ سؤال لا يجد المحامي محمد محمد 29 سنة (متزوج وعنده ولد واحد) فائدة من الرد عليه، «لأنّ الإجابة ببساطة لا تتناسب مع إمكانات الفرد وقدراته المادية». لهذا، فإنّ «الهوة كبيرة بين السياسة الإدخارية وما نقوم به من صرف أو هدر أو إنفاق»، حسب قوله. وهو يدرج تلك المفردات تحت تسمية «متطلبات الحياة الإستهلاكية التي لا تسمح للفرد بادخار جزء ولو قليل من دخله».
وبـالإنتقال إلى معرفة السبب الذي يمنع الفرد من تعزيز الإدخار كثقافة متبعة، يعلق محمد قائلاً: «عدم الاستقرار المادي الذي يعيشه الفرد، هو من الأسباب التي تفقده الطمأنينة المالية، إضافة إلى العجز عن التحكم في دفة الصرف في ظل وجود أسرة وأبناء واحتياجات لا توصف إلا بالطبيعية». ويضيف: «من هنا، يتحول الإدخار في ثقافة الفرد متوسط الدخل إلى كلمة أجنبية لا يفهم ترجمتها أو حتى فهمها في حال تمكن من تعريبها، لأنّه ببساطة لا يمكن أن يمتلك أدواتها»، مقسماً التعامل المادي إلى مرحلتين: «مرحلة ما قبل الأبناء ومرحلة ما بعده، الأمر الذي يجعل للإدخار مواسم لا تنعم بالإستمرارية كما يلاحظ الآباء».
----------------------------------------------
سيولة
من جهته، يربط وائل عبدالله (متزوج من 3 سنوات) بين السيولة والقدرة على الإدخار، حيث يجد أن «قلة السيولة، هي معيار من معايير العجز الإدخاري»، متسائلاً: «كيف بإمكان الفرد أن يدخر وهو في الأصل لا يملك من المال ما يدخر منه»، معلقاً على الظروف الحياتية الصعبة، التي باتت تمنع الفرد من إدخار ما يلزم لمفاجآت الزمان بالقول: «حين يتوزع الراتب على مصروف البيت، واحتياجات الاولاد، يصبح من الصعب، وأحياناً من المستحيل، أن يبقى ما يمكن ادّخاره لليوم الأسود». هنا، يضحك وائل من المثل القائل: «خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود»، لأنّ القرش الأبيض، حسب تعبيره، «بات قرشاً مهدوراً في لحظة الحصول عليه، وهذا ما يجعل اليوم الأسود محكوماً بأن يبقى أسود طيلة الوقت». نسأله: من الأقدر على الإدخار، الرجل أم المرأة؟ فيقول وائل: «حين تتوافر ظروف مالية جيِّدة، فالمرأة من دون شك هي الأقدر والأنسب للقيام بهذا الدور، حيث إنها تملك قدرات مميزة في التوفير والإقتصاد، تجعل من الرجل مديناً لها بما تدخره لمصلحة البيت والأسرة».
الشكوى من العجز عن الإدخار، وتحميل تدني الدخل النصيب الأكبر من ذلك العجز، أمور لا تضعها إيمان مصطفى اقتصاد سنة رابعة في مقدمة اعتباراتها وهي تتحدث عن الإدخار في «مجتمعاتنا الإستهلاكية»، كما تسميها، فتوجِّه اللوم أوّلاً وأخيراً إلى «أسلوب التربية الذي يتعامل به الآباء مع الأبناء»، والذي تعتبره «خالياً من ثقافة التعامل المنطقي مع المال أو المصروف»، فتقول: «كيف يمكن أن نتحدث عن ادخار أو ثقافة إدخار، وسياسة البذخ موجودة في مجتمعنا ما إن تتوافر لها فرصة؟»، مشيرة في هذا السياق إلى «الفهم المغلوط لمحبة الأبناء الذين يدفعون لاحقاً ثمنها». وتكشف أنّ «المحبة في عرف معظم الأهل، تتلخص في منح ما يتم طلبه من مال من قِبَل الأبناء، وكأنهم يؤمنون بأنّه على مقدار العطاء المادي تكون المحبة»، مضيفة: «إنّ عجز الأهل عن قول كلمة «لا» لأبنائهم، يقلل فرص نجاح الإدخار في حياتهم، ويعلم الأبناء أن كل شيء معروض مباح ومشروع، فتتعقّد المفاهيم التي تخص المال وطريقة صرفه بحجة لا يمل الآباء من ترديدها قائلين: لندع أبناءنا ينعمون بما حرمنا منه». وتتابع إيمان حديثها عن معوقات الإدخار التي تبدأ كما تشير «من المفاهيم الخاطئة للتربية»، فتقول متسائلة: «كيف يمكن للأسرة اليوم أن تدخر، وفي يد كل ابن من أبنائها «موبايل»و لاب توب
---------------------------------------------
إدارة موارد
من ناحيتها، تستبعد ماجدة (ربة منزل) أن يكون الإدخار «سياسة مستحيلة التنفيذ في هذه الأيام»، فالإدخار كما تعرفه هو «القدرة على إدارة موارد الأسرة بما يلبي احتياجاتها في الحاضر والمستقبل»، مؤكدة بهذا أنّه «سياسة فردية وقرار لا علاقة له بالفورة الغلائية كما يتحجج معظم الناس». لهذا، فالمطلوب في رأي ماجدة «بعض الإتزان في الصرف والتعقل في مواجهة المغريات التي تملأ السوق وواجهات المحال». وهي تشير إلى أنّ «الإدخار حالة من التدريب الذاتي على عدم التبذير»، لافتة إلى أنّ «القرار بالإقلاع عن التدخين مثلاً، صعب في أوّله، وكذلك الحال مع قرار عدم التبذير والشراء من دون حسبان».
وفي سياق تعليقها على موضوع الإدخار، تقول هند حسين: «إنّ الإدخار في زمن ارتفاع في الأسعار، تحول إلى كلمة لا توجد في قاموس الأسرة حيث نجد أن مجرد التفكير في الإدخار مسألة غير منطقية، لأنّ الدخل بالكاد يغطي مستلزمات الحياة، فكيف إذن بإمكان الفرد أو رب الأسرة، على وجه التحديد، أن يفكر في الغد، وحمولات اليوم المادية تفيض عن اللزوم؟». ولكن، حين يأتي السؤال: أيهما أقدر على الإدخار المرأة أم الرجل، فالجواب، كما تقول هند، هو: «المرأة من دون شك». نسألها: لماذا؟ تجيب: «لأنّ المرأة أكثر خبرة في السوق، وأكثر تجوالاً في المراكز التجارية، الأمر الذي يجعلها أقرب إلى الأسعار، والتنزيلات، والإعلانات التي تسبق التنزيلات أو التخفيضات.
فإذا كان معها على سبيل المثال ألفا ليرة، فيمكنها والحال هذه أن تدخر من ذلك المبلغ ولو 500 ليرة وبهذا، تكون قد استطاعت وبخبرتها ومعلوماتها، أن تضيف إلى مدخراتها مبلغاً جديداً». أمّا الرجل، فتقول هند بشكل محسوم إنّه «يترك على الدوام تلك المسائل المادية إلى المرأة، لأنّه ببساطة لا يملك ذلك المزاج للشراء أو التسوق». وعن أسوأ توقيت للإدخار، ترى هند أنّه «ذاك الذي يسبق العطل الصيفية، أو افتتاح المدارس، فالإجازة تمتص مدخرات العام كله، وبهذا، تتحول كلمة مدخرات إلى عبارة مدخرات مؤقتة، لأن موعد صرفها معلق بشهر العطلة الذي يصبح أشبه بالجراد الذي يأكل الأخضر واليابس».
---------------------------------------------------------
مجتمعات إستهلاكية
من جهتها، تجد نور العامود (متزوجة وأُم) أنّ «المرأة هي الأقدر على الإدخار من دون شك»، وإذ تسلط الضوء على قدراتها الإقتصادية، ومهاراتها الإدخارية، وطريقة تعاطيها المادية مع الأمور، تقول: «تهتم المرأة بأدق التفاصيل في عملية الشراء، بينما يقدم الرجل على دفع المبلغ المطلوب من دون البحث عن الأغلى والأرخص، وهذا يوضح الفرق بين قدرات المرأة والرجل في مسألة الإدخار»، وتتابع: «لا تنتظر المرأة مساعدة من أحد للقيام بعملية الإدخار، فهي لا تقصد البنك لتضع مدخرات عائلتها فيه على سبيل المثال، إنّها تدخر مالها في بيتها، في خزانتها،
ومن زاوية أخرى، تجد نور أنّ «العيش في مجتمع إستهلاكي، يتعارض مع القدرةعلى الإدخار، حيث لا تستطيع الأسرة، حتى بوجود ربة بيت واعية، أن تقوم بآلية الإدخار نفسها التي تقدم عليها وهي في مجتمع غير إستهلاكي». وترد ذلك إلى «المغريات الكثيرة التي تكثر في سوق وتدعو الأفراد من كبيرهم إلى صغيرهم إلى الإقبال عليها من دون تردد».
--------------------------------------------------------
سلوك مكتسب
في ظل الحديث عن الإدخار، وتفاوت الآراء بين مؤيد وعاجز عن تبنيه كسياسة قابلة للتنفيذ، كان لابدّ من طرح سؤال يتعلق بما إذا كان الإدخار عبارة عن سلوك مكتسب؟
وفي هذا الإطار، تقول أستاذة علم الإجتماع الدكتورةايمان حيدر: «إنّ الإدخار مثله مثل أي سلوك مكتسب، يتعلّمه الطفل أوّلاً داخل أسرته الصغيرة ومن ثمّ يصقله المجتمع الكبير بعد ذلك». ويضيف: «إذا لم تقم الأسرة بتعليم أطفالها على هذا السلوك، فسيصبح من الصعب عليهم العمل به عندما يكبرون»، لافتاً إلى أنّ «الأسرة مسؤولة عن تعليم أطفالها مفهوم الإدخار وشرح فوائده، منذ نعومة أظافرهم حتى يصبح من العادات المتأصلة فيهم، والتي يصعب التخلي عنها».
وتسوق الدكتورة حيدر أهم الأسباب التي تدفع الأسرة إلى تجاهل سياسة الإدخار في تربيتها لأبنائها، فيجد «في عدم دراية الوالدين بأهمية الإدخار، سبباً مهماً في إنتاج عقلية جاهلة بقيمة الإدخار، إضافة إلى فقدان الأهل القدرة والإرادة على تعليم أطفالهم تلك القيم التي تتعلق بالتربية والتعامل الصحي مع المال كونه قيمة أكثر منه وسيلة صرف وتبذير».
«ابتعاد الفرد عن الإدخار لم يأتِ من فراغ»، كما تعلق الدكتورة ايمان، مشيرةإلى أنّ «الإدخار لا يدخل في ثقافة الأفراد، لأنّه أوّلاً لا يدخل في ثقافة الأسرة العربية نفسها» كما تقول، وتدرج أهم الأسباب التي تمنع تلك الأسر عن الإدخار، ومنها: «الفقر والوضع الإقتصادي المتدني، الذي لا يسمح للأغلبية العظمى من الأسر في الوطن بالإدخار، كبر حجم الأسرة ، ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ، وتميز الأسواق بالطابع الإستهلاكي السريع».
واخيرا تجد الدكتورة إن «من الضروري أن نقوم بتدريب أبنائنا على الإدخار، وذلك باتباع الخطوات التالية: تشجيع الأطفال دون العاشرة على استقطاع جزء صغير من مصروفهم بشكل دوري، ووضعه في ما يسمى الحصالة، ليتعلم كيف يدخر.