قد يقال هنا إنه في كل الصراعات المسلحة قد تأتي لحظة يلتقي فيها الطرفان المشتبكان على مائدة الحوار أو التفاوض للخروج بحل سياسي . ولكن علينا أن نميّز في هذه المسألة بين حالات ثلاث :
- حالة يسود فيها نوع من توازن القوى في ساحة القتال , فيكون البحث عن حل سياسي بغرض وقف القتال هو هدف الحوار أو التفاوض .
- وحالة يختل فيها ميزان القوى العسكرية في الميدان لصالح طرف باتجاه الطرف الآخر , ويتم البحث عن مخرج سياسي بغرض وقف القتال بما يحقق مصلحة الطرفين ولو بشكل جزئي بالنسبة لكل منهما .
- وحالة يهزم فيها أحد الطرفين كلياً في الميدان . فإذا حضر إلى مائدة التفاوض فلكي يفرض الغالب إرادته على المغلوب كما هو معروف في تاريخ الحروب .
أما أن يفكر طرفٌ ما في أن يجرّب حظه في ساحة القتال حتى النهاية , ثم إذا هزم وذهبت ريحه جاءت به الضغوط الدولية ووسائل الإعلام المغرضة ليمارس حواراً متكافئاً مع الطرف المنتصر , فهذه في تاريخ الحروب وفي تاريخ الفكر السياسي بدعة لا يمكن أن نعثر على مثال لها مهما اجتهدنا في البحث . فمن آثر الاحتكام إلى السلاح , ومضى في محاولته حتى النهاية , وهزم في الساح , فإن المنطق يفترض أنه أسقط الخيار البديل – وهو الحل السياسي – منذ البداية وحتى النهاية , وعزل نفسه عن هذا الخيار , وحكم على نفسه بالإقصاء أو بتعبير آخر الاستسلام .
هذا المنطق ينطبق بطبيعة الحال على حسابات الحروب بين الدول , ولا ينطبق بالضرورة على حسابات الصراع حين يتخذ شكل التمرّد الداخلي على نظام حكم قائم . ثم إن المسألة تصير أكثر تعقيداً حين يصير التمرّد الداخلي مطيّة لتدخل قوىً خارجية تضخّ السلاح والمسلحين الأغراب , وتأتي بعصابات الإرهاب , وتمارس بذلك حرباً دولية ولكن تحت غطاء محليٍّ مُدّعى . ويزداد المشهد تعقيداً أكثر حين تصير العصابات الإرهابية الدولية هي المشتبكة في الصراع . ثم يتفاقم التعقيد في المشهد حين يتضح أن القوى المحلية أو التي يفترض أنها محلية عاجزة أصلاً عن إمكانية التحكم بالعصابات الإرهابية , ويثبت عملياً أنها مقودةٌ من القوى الخارجية وليست قائدة أو موجهة لتلك القوى , حيث يصير السؤال عندئذ : مَعَ مَنْ مِنَ الأطراف المتورطة في الصراع يمكن الجلوس على مائدة الحوار أو التفاوض بما يضمن وقف عملية الصراع نفسها بشكل نهائي ؟ .
أمام حالة معقدة من هذا النوع يتوجب علينا , وبمنطق « مُكرَهٌ أخوك لا بطل» أن نميّز بين طاولتين مفترضتين للحوار أو التفاوض :
- طاولةٌ للقوى التي يمكن تصنيفها على أنها محلية , أي داخلية . وفي الحالة السورية يجب أن تكون قوىً سورية .
- وطاولة للقوى الدولية المعنية , ومنها تلك المتورطة عملياً في العدوان , إذا افترضنا حتمية نصب مثل هذه الطاولة أو شرعية ذلك بمنطق القانون الدولي العام الذي ينظم العلاقات بين الدول , وإذا افترضنا بأن الصراع صار إقليمياً أو دولياً وليس محلياً داخلياً .
ومع أن لقاء جنيف ولقاء طهران التشاوري وما قد ينجم عن قمة عدم الانحياز في طهران أو على هامشها هي أنشطة بنيت على أساس التسليم بوجود أطراف إقليمية ودولية مؤثرة في الأزمة, إلا أن هذه اللقاءات لا ترقى إلى مستوى الحوار الرسمي السوري مع هذه الأطراف رغم وجود أطراف بينها تتبنّى وجهة النظر السورية , وإنما انصبّ الاجتهاد حتى الآن في العمل على تشجيع أو تهيئة الحوار السوري الداخلي بين السلطة والمعارضة .
نحن إذن أمام فرضية تقول بأن هناك قوىً في المعارضة يجبُ أن تأتي إلى مائدة الحوار , وأن هذا الفعل من شأنه أن يسحب الذرائع من القوى الإقليمية والدولية الخارجية التي تمارس التدخل في الشأن السوري بشكل أو بآخر . وهنا يبرز السؤال الكبير : مَنْ هي هذه القوى ؟ .
من البديهيات في الإجابة على هذا السؤال القول :
- إنها قوىً لها حضورها التنظيمي الفعلي داخل الساحة السورية .
- وهي قوىً تقبل بمنطق وقف العنف والاحتكام إلى الحوار السياسي .
- وهي قوىً قادرة فعلياً على وقف العنف – ولو جزئياً – والاحتكام إلى الحوار السياسي كخيار كلي بديل .
- والأهم من كلّ ما سبق أن تسلم هذه القوى بأن الخيرة هي فيما يختاره الشعب السوري عبر الأساليب الديمقراطية الحقة , وليس فيما تجري محاولة فرضه على سورية من قبل القوى الخارجية المعادية التي يجري الاستقواء بها , ودعوتها للتدخل المسلح , أو فرض العقوبات . فمثل هذا المنطق يعني محاولة السلطة والإرادة الوطنية من خلال الاستقواء بالأعداء , وبالاعتماد على القوى المعادية , مما يشكل استمراراً عملياً لأسلوب العنف المسلح .
حين ننظر إلى المعارضة السورية التي رفضت الالتحاق بالحوار حتى الآن نظرة موضوعية, نستطيع استنتاج ما يلي :
1 – إن المعارضة المؤتلفة تحت مسمّى « المجلس الوطني « تضمُّ القليل من القوى السياسية المنظمة , أهمّها جماعة الإخوان المسلمين , إلى جانب الكثير من الأشخاص المرتبطين بأجهزة مخابرات خارجية . ويبقى المهم في هذا التشكيل أنه يدّعي الولاية على ما يسمى بـ « الجيش السوري الحر» .
2 – إن المعارضة المؤتلفة في التنسيقيات تضم القليل من القوى السياسية الفعلية , وغالباً ما تدّعي عدم مسؤوليتها عن العنف المسلح . ولكنها جهدت عملياً لتبريره ومحاولة استغلاله . والواقع أن بعض قواها تورطت عملياً فيه , وفي تشكيلات ما يسمى بالجيش الحر بالذات . ونستطيع أن نلحظ تناقضات في وجهات النظر داخلها . لكنّ أهمّ الملاحظات حول موقفها أنها لم تقتنع بعد بضرورة الالتحاق بالحوار دون شروط مسبقة وأقل هذه الشروط في نظرها انتقال السلطة إلى المعارضة دون الاحتكام إلى الإرادة الشعبية بدعوى أنها كمعارضة تمثل الشعب !! . ولكن ثمة مؤشرات الآن على أنها بدأت تعيد النظر في مثل هذا الموقف .
3 – إن الاستنتاج الأخطر والأهم هو أنه من المشكوك فيه أن يكون بوسع أيٍّ من طرفي المعارضة « المجلسية » و « التنسيقية » – وأيّ طرف معارض آخر – وقف العنف والإرهاب بشكل كلي كشرط لا بدّ منه لبدء الحوار وفق خطة كوفي عنان , أو حتى كنتيجة يتفق عليها من نتائج الحوار إذا ما شطح بنا الخيال إلى احتمال أبعد من ذلك . وذلك لأن مفاتيح العنف والإرهاب الذي يمارس في سورية توجد في أيدي أجهزة المخابرات المعادية من أمريكية وإسرائيلية وفرنسية وبريطانية وتركية وسعودية وقطرية وغيرها , وهي جميعاً تنفذ الإرادة الصهيونية الامبريالية . ولا تستطيع أيّ قوة سورية معارضة أن تدّعي بأنّ في وسعها تجاوز هذه الإرادات الخارجية ووقف العنف والإرهاب . فهذه القوى أو الشخصيات السورية التي تدّعي تمثيل المعارضة لا تملك من أمر نفسها شيئاً ذا بال على أرض الواقع , حيث أن القوى التي تتولى التمويل والتسليح والتوجيه للعصابات الإرهابية المسلحة هي صاحبة القرار الذي يمكن أن يكون مفتاحه المركزي في واشنطن . ونقول «يمكن» لأن اللاعب الاسرائيلي يستطيع أن يواصل العبث حتى إذا قررت واشنطن وقف اللعب . ولأن الوضع كذلك , فإن هذه القوى رفضت الحوار , ليس فقط تنفيذاً لرغبة واشنطن وشركائها , ولكن أيضاً لأن قبولها بالحوار سيكشف ببساطة عجزها عن وقف العنف , وأنها مجرّد أدوات يجري استغلالها من قبل القوى الخارجية , وليس مسموحاً لها أن تذهب إلى أيّ مدىً أبعد مما هو مرسوم لها . وإذا كان هذا هو شأنها فما حاجة السلطة السورية إلى محاورتها إذا كان العنف والإرهاب سيستمران ؟! . إن السلطة السورية معنيّة بمحاورة أطراف تسهم في إنهاء الأزمة وليس بمحاورة أطراف عاجزة عن أداء أيّ دور عملي في هذا السبيل .
وإذا كان البعض يفكر بالتمييز بين « الجيش السوري الحر» و « القاعدة » , فإن الوضع الفعلي على الأرض يقول بأن ما يسمّى بالجيش الحر بات خليطاً من ثلاث فئات أساسية :
- عناصر جماعة الإخوان المسلمين التي تؤدي أدواراً قيادية .
- العناصر الإجرامية التي لا توجد دوافع عقائدية وراء العنف الذي انخرطت فيه وإنما دوافع مالية مصلحية , حيث يحركها منطق الارتزاق .
- العناصر السلفية المتعددة الجنسيات من تنظيم القاعدة وتنظيمات سلفية أخرى بات وجودها ودورها يطغيان عملياً على دور العناصر السورية المحلية .
ويأتي تنظيم « القاعدة» الأساسي ليشكل ما يمكن اعتبارها خلايا خاصة منفصلة تمارس نشاطها الإرهابي بأسلوبها المعروف , وذلك إضافة إلى العناصر التي تتحرك في إطار ما يسمى بالجيش الحر . كما تأتي شبكات الموساد الخاصة التي تتحرك ضمن إطار خاص للعمليات لتضاف إلى التشكيل عدا عن نفوذ الموساد على كل من « الجيش الحر » و « القاعدة » .
وهنا يبرز السؤال المنطقي : إذا قيل بأن المعارضة تلتزم بوقف عمليات « الجيش الحر» – ولانعتقد أنها تستطيع – فهل من ضمانة في ألا يستمر الإرهاب الذي تمارسه القاعدة والاغتيالات التي يمارسها الموساد ؟ .
ربما قيل إنه إذا قرر المايسترو الأمريكي ذلك فإنها تستطيع . إذن فالمسألة بالنسبة لها هي بدءاً ونهاية في يد المايسترو الأمريكي . وهنا تكمن المشكلة منذ الأساس .