بكل تجليات هذا المعنى أن أقف على تلاوين كثيرة لطيف سوري واحد من الشجرة في درعا إلى عين ديوار في الحسكة وفي كل رقعة من جغرافية الوطن الغالي سورية تلاقيت -مع المختصين الأجلاء الذين كانوا يحملون معي مسؤولية الندوة الثقافية السياسية- بالكثير الكثير من الشيوخ والمعمرين الذين حدثوني ومن معي عن تواريخ وحوادث سمعوا بها أو عايشوها أو وقعت معهم وتشير إلى القيم العليا للعيش السوري المشترك أو للوقفة السورية الواحدة ضد الغاصب العثماني والفرنسي وكيف كان السوري حضناً لأخيه وحارساً وأخاً في مواطنية تعلي الأخوة بالإنسانية والوطن الواحد على كل نزعة أو دسيسة يريدها المستعمر العثماني أو الفرنسي بغية تفتيت الصف الوطني وتنازع أصحاب الأرض والتاريخ الواحد حتى لا يكونوا يداً واحدة وقلباً واحداً يقاتلون ضد مستعمريهم.
وإذ كنت أختزن الحوادث التي لايمكن سردها في مقال واحد, لكنني سأورد ما يتسع له المجال حتى أوضح عن شرف كبير اكتسبته من لقائي بشيوخ الوطن ومعمريه, والبدء من منطقة (القريتين) وهي في إطار محافظة حمص حيث أبى علينا شيخ كريم فيها رسمت العقود على وجهه خارطة كفاح طيلة حياته فقال: (يا أساتذة نحن في هذا الوطن أخوة وكل مكان ذهبنا إليه اقتنعنا فيه بالأخوة السورية ومثالي عن نفسي حين طاردني العثمانيون لعملي الوطني التجأت إلى أهلي بالسويداء، وعشت كأني في بيتي وحين طارد العثمانيون والفرنسيون الوطنيين في السويداء التجؤوا إلى كافة مناطق سورية وخاصة إلى الحسكة أو حين نفاهم المستعمر إلى المحافظات الأخرى نزلوا عند أهل لهم قاسموهم كافة مظاهر العيش الكريم الآمن وأحواله) وإذا كنت سأكتفي برواية شيخ القريتين الجليل فإن التاريخ السوري لم ينس أولئك الرواد الذين ذهبوا إلى الدول العربية حين كان الاستبداد العثماني يطاردهم وعبد الرحمن الكواكبي نموذج وكذلك القادمون من المغرب العربي إلى سورية نموذج، وخلاصة القول تشير إلى أن الأرض الواحدة والوطن الواحد وقيم الأهل والوجود المشترك والمصير المشترك جعلت السوريين على مساحة من المكان العربي لاتضيق بهم وعلى قيم من التعاون الوطني والتآزر والحمل المشترك لا تخذلهم، ولذلك بقي المواطن في سورية عزيزاً كريماً أينما اتجه فهو في القلعة السورية وبين أهله وذويه وعلى هذا النهج من الحياة المشتركة والأهداف لم يجد الاستعمار له موطىء قدم أو لم يكن له فرص مؤهلة للمزيد من استعماره فرحل وزاد السوريون بأصالتهم وعيشهم الواحد أن رفضوا تقسيم بلدهم إلى دويلات واسترجعوا الوحدة السورية بإخلاص وطني لامثيل له وأثبتوا أن الوحدة الوطنية أرضاً وشعباً لبلدهم سورية ستكون الأرضية الأقوى لوحدة الوطن العربي الكبير.
ومنذ ذلك الزمان الموغل في القدم والحياة السورية تتجدد وتتطور في ظلال المواطنين المتمسكين بالعقد الاجتماعي الواحد وبالقيم الوطنية والأخلاقية الواحدة وبالمستقبل الواحد، وحين ظهرت الحركة السياسية الحزبية والايديولوجية سعت لكي تفيد من قوة الوطنية السورية في التآلف والتعاضد والتآزر ونمت الأحزاب عند أبناء الوطن الواحد وازدهرت خاصة في مرحلة مابعد استقلال سورية 1946، وخاضت معاً معاركها ضد الديكتاتوريات العسكرية أو ضد الأحلاف الاستعمارية (حلف بغداد ومشروع إيزنهاور) ثم حققت الجبهة الوطنية في العمل السياسي وحصلت على مقاعد في البرلمان السوري في النصف الثاني من القرن الماضي.
نعم هكذا كان تاريخ السوريين في التفاعل الوطني والسياسي واليوم حين يكون هذا التاريخ دافعاً كبيراً في التلاقي والحوار الوطني والبرامج المشتركة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، خاصة أن قانون الانتخابات الجديد صار حقيقة وقانون الأحزاب صار حقيقة وقانون الإعلام صار حقيقة والفضاء السوري الديمقراطي عبر انجاز المطامح في الدستور الجديد صار حقيقة وبناء عليه فلم يعد مقبولاً الشك والحذر والاشتراط باعتبار أن كل مطلب محق للحركة السياسية الوطنية في سورية قد تحقق وما على الجميع سوى أن يفتح صفحة الأخوة الوطنية والتجاذب، ويستنكر ثقافة التفرقة والتكفير والقتل والتنكيل واختطاف المدن إلى زمن وتعطيل الحياة السورية والصيغة السورية للعيش المشترك هذا هو البرنامج الواضح الذي يفرز حرية المواطن والوطن عن حرية القتل وثقافة تقطيع أوصال الميت، فالحرية مسؤولة ومسؤوليتنا جميعاً أن نعرف كيف نكون الأحرار في وطن أتقن ثقافة الأخوة ورفض ثقافة التدمير.