.ربما هي الرغبة في عدم التناسل والتواصل، لذلك اقتضى التنويه في هذه المقاربة اللغويّة واستعمال هذا المصطلح الحسّاس...لأنّ العنوسة- مثل السكينة ، الأولى عزوف عن الزواج وليس عن الحياة، والثانية عزوف عن الكلام وليس الحديث)...لنعد إلى حديثنا:
من لا يعرف منّا قصّة الدبّ الذي قتل أو (كاد) أن يقتل صاحبه بدافع الحرص والإخلاص...هذا ما فعله بعض غلاة (النخوة اللغويّة)، حين كتموا أنفاس العربيّة ، حجبوها عن أيّ لقاء وحبسوها داخل المعاجم السميكة مثل رؤوسهم.
قد لا ينتبه ذوو النوايا الحسنة والتفكير الخاطئ إلى أنّ لغتنا- منذ عصور التدوين- قد تفاعلت مع الثقافات الأخرى تأثّرا وتأثيرا، غنت وأغنت ثمّ جدّدت شبابها وسحرها بفضل عشّاقها...ألم يقل أحدهم: أحبيني كي تزيد وسامتي.
أمّا بعض النخب الثقافيّة التي ترى بعين واحدة، فقد أرادت أن تحرس لغتنا بالهراوات في عصر الصواريخ وأقمار التجسّس..!.
لكنّ العربيّة صمدت بفضل روّادها الأوائل ممن اختلطوا بالأقوام الأخرى، وبفضل بعض المتنوّرين في العصر الحديث، وليس بفضل أقفاص صنعها الذين لا يتحدّثون إلاّ بلسان واحد ولا يطيرون إلاّ بجناح واحد.
كيف للواحد –مثلا-أن يقيّم طعاماً ويدافع عن خصائصه، في حين أنّ ذائقته لا تعرف إلاّ طعما واحداً ووحيداً.... وبنكهة قديمة لم يسع لتجديدها منذ قصائد أحمد شوقي وحافظ ابراهيم.
المشكلة أنّ هؤلاء لم يعملوا بالأثر المعروف: (من تعلّم لغة قوم أمن شرّهم)، وأنّ النبي العربي كان يخاطب وفود القبائل بلهجاتها ولغاتها، بل وأنّ القرآن الكريم قد احتوى مفردات من لغات مجاورة كالآراميّة وغيرها.
لقد فات بعضهم أنّ اللغة كائن حيّ، يتنفّس، يتغذّى ويتطوّر عبر التفاعل والتفكير والمقارعة مع الآخر، كما كان سائدا في سوق عكاظ...وليس جسداً محنّطا ومحفوظاً تحت غبار المعاجم.
لعلّهم لم ينتبهوا إلى أنّ علماء (الأنتروبولوجيا) يدقّون ناقوس الخطر كلّ يوم حول انقراض وموت لغات عديدة في هذا العالم بسبب قطع (الإمدادات المعرفيّة) والتصحّر الثقافي.
ما العيب في أن يستريح القلم ويسكن اللسان إلى أكثر من حضن دون أن ينسى دفء ورائحة اللغة الأم.
أين المشكلة في أن يقرأ الواحد ويكتب من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، بل حتى من الأعلى إلى الأسفل كما هو الحال في بعض اللغات الآسيويّة...هل يضرّ ذلك باللغة التي مازلنا نتباهى بها ولم تعد تتباهى بنا..!؟.
إنّ سبب غياب الجملة الرشيقة والعبارة الطريّة من ألسنتنا ودفاترنا هو افتقار قاموسنا الشفهي والكتابي لتراكيب ومعانٍ جديدة يمكن أن ترفدها لغات أخرى.
جميل أن يستنشق الواحد رائحة ودفء ونكهة وحنين اللغة الأم، لكنّ الأجمل من ذلك هو معرفة (أحضان وقبلات لغوية أخرى) على سبيل المقاربة، كالشقيقة والصديقة والعشيقة من جهة، وبين الأمّ من جهة أخرى.
بعضهم قال: اللغة وطن، بعضهم قال منفى، بعضهم لم يقل شيئا....لكنّ الذين لا أوطان لهم لا يسكتون .... وتلك لغة أخرى ووطن آخر تبنيه الألسن والأقلام.
أمّا الذين رقدت أمهاتهم تحت التراب، فلغتهم التراب: أفصح من يتكلّم، أبقى من عليها...وأطهر من لسان لم تشبه شائبة.
hakemmarzoky@yahoo. fr