ما الناس إلا الصالحون حقيقة
وسواهم متطفل في الناس
لقد ميز بعضهم الإنسان بسمة «الروية» فقال تلميذ ابن سينا المتفلسف أبو عبد الله المعصومي: «ليس بإنسان من تكلم بغير روية». وأورد الجاحظ في رسائله تحديد أحد الحكماء للإنسان يوسم «الحديث»
وقال بعض الحكماء لابنه: «يا بني، إنما الإنسان حديث فإن استطعت أن تكون حديثاً حسناً فافعل «أي الحديث التكلم بين الناس بما هو جميل».
وجاء في كتاب الحكمة العربية: « ومن أغرب ماذهب إليه مفكرو العرب أن أخص خصيصة يتميز بها الإنسان إنما هي (حمقه) إذ نسب إلى سفيان الثوري القول العجيب: «خلق الإنسان أحمق لكي ينتفع بالعيش» وفي رواية أخرى، قال سفيان الثوري: «قرأت في بعض الكتب: ابن آدم خلق أحمق، ولولا ذلك لم يحب الدنيا ولم يركن إليها».
كما نسب إلى وهب بن منبه القول: «خلق ابن آدم أحمق ولولا حمقه ما هنأه العيش».
وذهب صاحب مصنف «الإحاطة في أخبار غرناطة» إلى حد القول: «إنه توجد في موجودات الله تعالى عبر، وإن أغربها عالم الإنسان» وفسر غرابة عوالم الإنسان، والناس بما هم: «جبلوا عليه من الأهواء المختلفة والطباع المشتتة والقصور عن فهم أقرب الأشياء مع الإحاطة بعوالمها».
وقد ذهبوا كما يذكر الدكتور محمد الشيخ بهذا الصدد إلى حد تمييز «الإنسان الحقيقي» عن «الإنسان الشبيهي» وذلك بقصر اسم «الإنسان» على ما حق منه أمام ما شبه منه.
وما كان إنساناً، فقد أطلقوا عليه اسم «النسناس» الأول: إنسان باق على أصل إنسانيته ما نسخ ولا مسخ. أما الثاني: فإنه شيء ما في مسلاخ إنسان، فقد رووا عن أبي هريرة أنه قال: «ذهب الناس وبقي النسناس». فقيل له: «ما النسناس؟ قال: يشبهون الناس وليسوا بناس» أو لعله قال: «يتشبهون بالناس وليسوا من الناس».
سبق أن أورد صاحب «العقد الفريد» تقسيماً آخر للإنسان الحقيقي والإنسان الشبيهي، فقال: قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: الناس ثلاثة: ناس ونسناس وناس غمسوا في ماء الناس، يضاف إلى هذا كم من فاضل متفرد في عصره قالوا عنه: «كان من بقايا الناس».
وقد عبر العرب القدامى تأثراً بالفكر السابق عليهم- عن معنى «الإنسان» باسم «العالم الصغير» فمن شأن الإنسان إذا ما تؤمل حق تأمل أن يكشف عن أنه انطوى في ذاته على كل ما احتوى عليه العالم. لكن مرقوماً مرموزاً مصغراً.
قال الجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»: «زعمت الأوائل أن الإنسان إنما قيل له العالم الصغير سليل العالم الكبير لأنه يصور بيده كل صورة ويحكي بفمه كل حكاية، ولأنه يأكل النبات كما تأكل البهائم ويأكل الحيوان كما تأكل السباع وإن فيه من أخلاق جميع أجناس الحيوان أشكالاً.
وعاد إلى القول في «الرسائل» فأوضح: «إنما قيل الحيوان أشكالاً»... من ختل الذئب وروغان الثعلب ووثوب الأسد وحقد البعير وهداية القطاة (...) لأنه يحكي كل صوت بغيه ويصور كل صورة بيده.
ثم فضله الله تعالى بالمنطق والروية وإمكان التصرف وذلك هو أصل ومنشأ حكاية المماثلة بين الإنسان والعالم.
والحال كم فتنت هذه المماثلة بين الإنسان والعالم حكماء العرب وصوفيتهم وذلك حتى إنك تكاد لا تجد منهم من لم يتماثل ويشابه ويناسب. إذ مماثلة الإنسان بالكون تكاد لا تخلو من أي كتاب عربي نظر في شأن «الإنسان».
ولقد قال هؤلاء في عجائب الإنسان إن الوجود كله منطو فيه، فهو بهذا نسخة من العالم الأكبر وهو «مجمع الموجودات»، ومما ينسب إلى الصوفي أبي العباس المرسي إنشاده:
يا تائهاً في مهمة عن سره
أنظر تجد فيك الوجود بأسره
أنت الكمال طريقة وحقيقة
يا جامعاً سر الإله بأسره
يا سابقاً في موكب الإبداع
ولاحقاً في جيش الاختراع
عقل فأنت نسخة الوجود
لله ما أعلاك من موجود
أليس فيك العرش والكرسي
والعالم العلوي والسفلي
ما الكون إلا رجل كبير
وأنت كون مثله صغير
من هنا تتسلل نظرية تفضيل الإنسان على الخلق إلى فكر الراغب، ذلك أن الله جعل الإنسان بالقياس إلى ما قورن به من الكائنات، «سلالة العالم وزبدته» وذلك لأن المقصود من العالم وايجاده شيئاً بعد شيء وهو أن يوجد الإنسان: فالغرض من الأركان هو أن يحصل منها النبات ومن النبات أن يحصل منه الحيوانات، ومن الحيوانات أن تحصل منه الأجسام البشرية ومن الأجسام البشرية أن تحصل منها الأرواح الناطقة ومن الأرواح الناطقة أن تحصل منها خلافة الله في الأرض فيتوصل بإيفاء حقها إلى النعيم الأبدي.
وقال في كتاب آخر: «واعلم أن كل ما أوجد في هذا العالم فإنما أوجد من أجل الإنسان: إما لانتفاعه به من الحمل والركوب، كالخيل والبغال والحمير أو الأغذية له كالبقر والغنم والحبوب والثمار وإما لانتفاع ما ينتفع به الإنسان كالعشب والحشرات.
وما لا يعرف الإنسان نفعه فليس يخرج عن كونه نافعاً، وقد بين الحكماء نفع جلها وما لا سبيل لبعضنا أو لكلنا إلى معرفة نفعه.
وقد سخر لمعرفته بعض الحيوانات كالشجر الذي فيه العسل بالقوة وما سخر لمعرفته واستخراجه إلا النحل.
وفي الإنسان من الكمالات ما في الحيوان من النقائص فالحيوان لا يقدر على أن ينسج وشائج الصداقة وإنما قصاراه (الإلف) الذي يقع بين أشكاله.. وليس الإنسان كذلك.