- أين أغنية الشجرة؟
- انتبه إلى هذا الرجل... هو الذي يغني أغنية الشجرة....
سلم الطفل على فؤاد غازي وأغنية(شجرا زغيري تفييني)
كان هذا في نهاية القرن الفائت..
وقبل هذا التاريخ وبعده لم تكن تنقطع الصلات والقرابة بيننا وبين الفنان الـ فؤاد والأغنية الشجرة أو المشوار والتعب... العاطفة التي يجود بها الصوت الحنون ميراث جميل لكل وجدان جيد ناجح في امتحانات الذوق والعذوبة... وهكذا فعل صوت فؤاد غازي إذ قدم لكل مستمع حصة لطيفة من عاطفة صوته وورده وجرده وبساتين أغانيه.. وهذه الحصة من العاطفة التي يتلقاها الذوق والإصغاء هي ميزة الموهبة الفطرية.
فؤاد غازي فنان بري، وموهبة جبلية عاطلة عن التزوير والتلاعب وعمليات التجميل... بل هو من أكثر الفنانين مبالغة بالعاطفة الصافية، دون أي إصلاحات وترميمات وزينة، ليس لديه أي قدرات على(مكياج) نبرات صوته ونبرات وجدانه، وسيرته الذاتية والعائلية والعاطفية والغنائية... كما صوته يجود بكامل عاطفته الرقراقة كنبع عند مبتدأ السفح يقرأ في كتاب الشجرات والفتيات والدنان، هو يقول كامل حبه وانفعالاته وأشواقه وأخطائه وكرومه وعطائه... لا يعرف أن يتريث: يعطي في هذه الأغنية قليلاً من صوته وفي أغنية تالية قليلاً من قرارات عاطفته وبعضاً من جوابات وجدانه...
في كل موال وأغنية يعطي أشد صوته وعاطفته..
في لقاء مع الشاعر جوزف حرب قال:
(أحب صوت فيروز من غير كلام)
عبقرية الصوت تخطت خبرة الحكي والكلمات، فصارت بحالها سيدة الأداء والإشارات والمعنى واللحن والنغمات.. وفؤاد غازي لصوته حاجات فطرية تصير سلطانة الأغنية التي يغنيها، وعلى رأس هذه الحاجات الفطرية موهبة العاطفة البرية التي ترسل مراسيلها ورسائلها بلا تحفظ أو كتمان أو تجزئة طويلة الأمد أو قصيرة.... وتناسقت الفطرة وتوازنت العاطفة وتثبت الصوت من حالته الحلوة...
فيلمون وهبي في جميع تجربته وفنه وعطائه استثمر فطرته المبدعة ببهاء وبساطة ورقي... وساعده في صون إبداعه وحماية فطرته شراكته الإبداعية الجميلة مع زمن إبداعي جميل، فيه مبدعون كبار لا يخرجون عن درب وجدانهم وإبداعهم، مهما دعت الظروف... بل يختارون الظروف المؤاتية لفنهم وخبرات العطاء الفني، وليس كالجاري في سوق الاستهلاك الفني: المرأة تغني من فخذيها ورقصها وأبهة صدرها وعمليات تجميل الشفتين وليس من صوتها وفطرتها وعاطفة أحزانها أو حبها.... والرجال في هذا السوق يستثمرون عروض بلاء الناس وتعذيب أذواقهم...والفضائيات والمال وموسيقا الضرب والصراخ والصرع الوجداني في شراكة وسخة ومؤذية، بعد أن كان الفن الجيد والفطرة الحنونة في شراكة حسنة وصافية... كانت الأغنية وجبة طمأنينة وفرح تستحسنها الأعصاب وتحيا بها...
الغناء الجيد يهدي الإصغاء فن الصفاء...
والغناء الصراخ والصرع يهدي الإصغاء فن التلوث...
في عام 2003 وما بعد، كان يؤنسنا فؤاد غازي بحضوره المتكرر إلى الجريدة... وذات ظهيرة اتصل محمد الماغوط.
- تعال...عندي مسرحية قيام جلوس سكوت ، سأتفق مع الفنان الذي سيخرجها...
- عندنا فؤاد غازي
- أنا بالانتظار..
- بيت الماغوط يبعد عن الجريدة شوقاً والقليل من الخطأ ودوران عجلات الزمن الألوف.
في المدخل وما بعد العتبة بلفتة أو لفتتين العديد من الأحزان واللوحات وصوت (تعب المشوار)
وتعب محمد الماغوط... وعلى الأرائك والمقاعد والجدران قلق ويقع صمت وكآبة... وفي كل الحاجات وعند كل الزوايا طفولة ماغوطية بريئة الذمة تجاه الترتيب: الحبر مع النبيذ مع حبوب الضغط مع أرقام هواتف الأقرباء والصديقات والأصدقاء.
وبقايا صحون وكؤوس وطعام وماء وشراب وموالح...
دار حزن وحديث وفن بين الـ فؤاد والماغوط... وحصلت أنغام ولطافات، وأطلت مواويل وأغنيات....
وجاءت وراحت ذكريات والتفاتات وحكايات..
عند حافة الوداع توقف انتباه فؤاد غازي عند لباس الماغوط وأناقته المدردرة على المقعد كورقات عمر تسقط عن شجرة الزمن والتأمل وتنتعش وتتعافى وتشقى وتفرح كالكاتب والمغني والعاشق.
تساؤل رافق التلويحات: لماذا الماغوط يرتدي الطفولة والألبسة كما يرتدي الراعي والريح والفضاء
ولماذا نسي ( فردة جورب) ولبس فردة؟!
ولماذا لا يمسح حطام الأسى عن شفتيه ؟!
وضرائب الغياب والأقساط العاطفية من يساعده على تسديدها ؟!
والتقينا مرات ومرات في صيدنايا وبلودان ودمشق القديمة، ومقهى أبو شفيق في الربوة، وفي مقهى رصيف فندق الشام، وفي قصر البلور في باب توما وفي معلولا والبلدات الساحلية المشرفة على حكي الأزمنة كعاشقة جميلة تشرف على الدهشة..
وبقيت التساؤلات : لماذا نترك كامل الأعباء على العواطف الحلوة؟
ولماذا نهمل الغياب، حتى يحل ضيفاً عنيفاً وثقيلاً؟! والجواب: لا يحمل الأعباء إلا العواطف الحلوة الصريحة.. ولعل هذه الصراحة جعلت محمد الماغوط وفؤاد غازي وقبلهما فيلمون وهبي وزكي ناصيف وآخرين وآخرين في نزوح دائم إلى عواطفهم البرية .
استمر التساؤل من لقاء إلى لقاء، ومن مقالة إلى أغنية.. وفي سنة لاحقة بعد أن سافر الماغوط في قطار الغياب إلى عاطفية البرية المؤبدة.. اتصل فؤاد غازي وجدتني اليوم كالماغوط بـ (فردة جورب) واحدة، والأخرى غائبة.. لا أعرف أين..
الفن الراقي ولد بكر للعواطف الراقية... وحين تتعثر الأعمار بالفقد والنزوحات الوجدانية الكبرى، وحدها العواطف التي من هذا النوع تؤدي الواجب بالحبر حيناً وبالصوت حيناً وبالحب في جميع الأحيان .
في الحضور وفي الغياب العواطف الراشدة، رغم تمرسها بالطفولة وإمعانها في بريتها، تشقى في بسط نفوذ الصفاء وحماية وجود الطيبة والرقي ونكهات الأحزان اليافعة وحدة الحبر الفتي والكلمات الناتئة كذكريات عالقة على حيطان اللحظات..
ومن هنا يتمكن الفنان المطرب أو الكاتب من حزمة جيدة من ( الحريات الفرط) التي لا تحتاج موافقات مسبقة سوى من الوجدان..