وهذا يحصل الآن بعد وضوح مشهد التحرك الدبلوماسي الروسي وفتح الطريق الذي كاد أن يغلق, عندما ظهرت نوايا استخدام قضية تعاون سورية مع لجنة التحقيق الدولية للنيل من سورية واتخاذ إجراءات عقابية ظالمة على خلفية الادعاء أن سورية لم تتعاون ولم ترسل الشهود السوريين للاستجواب..
الأمر الذي دفع بالقيادة الروسية إلى تكثيف الجهود لإيجاد المخرج والحل الوسط, والتركيز على عدم استخدام المنظمة الدولية لاتخاذ إجراءات ظالمة والذهاب وراء رغبات فريق ما بتسييس هذه القضية لتمرير مشروع كبير وخطير لا يخدم استقرار المنطقة ولاالتوجهات الاستراتيجية الروسية.
التفهم الروسي الكامل والذي أيدته المواقف الشعبية والرسمية الروسية يلتقي مع التصريحات التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان والجهود التي وعد ببذلها لحصر القرار 1636 بجريمة اغتيال الحريري فقط, والذي ركزت عليه الدبلوماسية والموقف الروسي منذ صدور القرار وما فعلته الدبلوماسية الروسية آنذاك, بحيث أضيفت إليه وحذفت منه فقرات تجعله بعيداً عن الاستخدام السياسي..
كما ساعد الموقف والمساعي الروسية, تدخل الأطراف العربية سواء عن طريق جامعة الدول العربية والنشاط السوداني باعتبار السودان رئيساً قادماً للقمة العربية, والجهود المصرية والسعودية, والتنسيق الإيراني-التركي-الروسي, وذلك من أجل منع اشتعال المنطقة, وظهور أزمة جديدة قد تدفع بالعالم إلى الدخول في مواجهات ساخنة أو باردة, أقل ما يمكن أن ينجم عنها فوضى وعدم استقرار عالمي.
الجهود المشار إليها توجت أمس بالإعلان السوري عن القبول بمقر الأمم المتحدة في فيينا كحل وسط للاستماع إلى الأشخاص السوريين الخمسة, واستناداً إلى محضر تفاهم بين المستشار القانوني في وزارة الخارجية والقاضي الدولي ميليس, تم في اجتماع عقد بمدينة برشلونة 8/11/2005 وإلى ضمانات دولية أو على وجه الخصوص تعهدات دولة كبرى عضو في مجلس الأمن (إشارة إلى روسيا) بأن تضمن لجنة التحقيق والمجتمع الدولي جوانب السيادة الوطنية وحقوق الأفراد وعودتهم إلى وطنهم بعد الاستماع إليهم, وأن تعطى بعد ذلك درجة التعاون القصوى للموقف السوري, وعدم الدخول بعد ذلك في متاهات تعاونت أو لم تتعاون, وبالتالي عدم اتخاذ إجراءات عقابية أو غيرها ضد سورية, وفي حال ظهر مثل هذا الابتزاز أو التلاعب, فإن الموقف الروسي كفيل بمنع اتخاذ قرار في مجلس الأمن عن طريق التصويت ضد هذا القرار واستخدام حق الفيتو!.
قد يسأل البعض عن خلفية هذا التقدير للموقف الروسي المشار إليه, ومدى انسجامه مع الواقع, وهل تستطيع روسيا فعلاً ممارسة حق النقض في وجه التفرد الأميركي?!
الجواب يظهر من خلال النشاط الدبلوماسي المكثف بين سورية وروسيا, فمنذ اللحظة الأولى لجريمة اغتيال الحريري, سواء الاتصالات المباشرة بين الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين, وزيارات المسؤولين السوريين والروس المتبادلة, وآخر الزيارات المهمة التي قام بها رئيس مجلس الأمن القومي الروسي إيغور ايفانوف إلى دمشق, والاتصال الذي جرى بين الرئيسين السوري والروسي مؤخراً, كذلك الاتصال بين وزيري الخارجية.
كل هذه التحركات إضافة إلى تقديرات بتحرك قامت به وفود فنية روسية إلى دمشق, نقلت وجهة النظر الروسية والضمانات المشار إليها, قبل إعلان سورية قرار الموافقة على فيينا بساعات..!
أما لماذا تفعل روسيا ذلك وهل تستطيع الوفاء بمثل تلك التعهدات?!
إن تفهم روسيا للأهداف البعيدة للمشروع الأميركي والبحث عن الذرائع لتعجيل تحقيقه هو الذي يجعل روسيا تقف بقوة لمنع ذلك فالهيمنة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط ومحاولة الإدارة الأميركية تطويع سورية بعد العراق وصولاً إلى طهران يعني أن سيطرة أميركية متفردة
على منطقة الشرق الأوسط بكل شبكاتها الاستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية, وتحديداً وضع يدها على منابع وثروات هذه المنطقة, والأهم تحكمها بمستقبل الطاقة العالمي, يجعل مشاريع المستقبل التي يراهن علىها الروس في الشرق الأوسط في مهب الريح, وبالتالي طموحات روسيا وأمنها القومي واستراتيجيتها في خطر الإلغاء أو التلاشي..
والجميع في روسيا يدرك أن لعبة الهيمنة والتفرد الأميركي انطلاقاً من العراق إلى دمشق إلى طهران, تقود سريعاً إلى آسيا الوسطى ما يعني تهديد روسيا ذاتها!!
ويدرك الاستراتيجيون الروس أن تجار النفط ودور الشركات الاحتكارية في حروب اليوم له طابع اقتصادي أكثر مما هو جيوسياسي.
وانطلاقاً من مكانة روسيا وقوتها وحجم نفوذها العالمي والبنى التحتية التي أرسلتها في الشرق الأوسط, كل ذلك يفترض العمل على منع هذا التوجه, وإثبات وجود روسيا وقدرتها على تأمين مصالحها.
ومن هذا المنطلق نجد كيف فشلت الإدارة الأميركية حتى الآن في الملف النووي الإيراني, ما يعزز الاعتقاد بأنها ستفشل في الاستهداف الحالي لسورية, أما القول إن روسيا لن ولا تستطيع استخدام حق النقض في مجلس الأمن, فالتقديرات والاستنتاجات للتحرك السياسي الروسي تشير إلى أن روسيا تسعى وتنتظر لحظة مناسبة يكون فيها موقفها قوياً, ولا يشوبه وجود ذرائع أو تفسيرات متناقضة لقول كلمة واضحة (لا) وهي تبحث منذ سنوات لفعل ذلك, وقد تكون جولة الظلم الواضح والتسييس الذي تلجأ إليه الإدارة الأميركية حالياً تجاه سورية أفضل اللحظات لظهور الفعل الروسي المناسب.
ورغم ذلك الوضوح فإن بعضاً من أنصار لعبة الأمم المتحدة وتقاسم (الفطيرة) يتكتمون على الطرف الدولي الذي قدم الضمانات لسورية, وإن هذا الطرف هو روسيا.
هؤلاء ما زالوا ينظرون إلى أن مصالح روسية قد تتقاطع مع المشروع الأميركي, واستناداً إلى ذلك يتوهمون أن تقوم روسيا بدور المساعدة في تمكين الأمم المتحدة من الوصول إلى إدانة صريحة عبر الاستجرار وضمن صفقات تحت الطاولة, وعندها لا تستطيع الدبلوماسية الروسية تنفيذ الذي وعدت به, وبكل بساطة تستطيع التنصل من التعهدات والالتزامات (خصوصاً أنها غير معلنة) ويذهبون في تصوراتهم الواهمة إلى حد اعتبار ذلك بمثابة فعل يضمن لها حق الجائزة من الفطيرة الموعودة.
إن المتابع للسياسة الروسية, خاصة في عهد الرئيس بوتين يستنتج أن روسيا جادة في مواجهتها للمشروع الأميركي, ولا تريد له نجاحاً, لأن ذلك يعني استهدافها في الصميم, وبانتظار القول الفصل يظل الرهان على سلامة ومبدئية الموقف السوري.
ولا يعني المضي إلى آخر الطريق ودخول اللعبة حتى النهاية حياداً عن قرار المقاومة والمواجهة عندما تقطع كل الذرائع وحينها فإن الشعب السوري كفيل بعدم تمكين الأعداء منه.