حتى انبرى العديد من المعلقين الإسرائيليين للقول بأن أفضل وسيلة يمكن أن ينهجها بنيامين نتنياهو لمعالجة الواقع المرير هي صرف الأنظار عنها وتجييرها إلى عملية السلام عن طريق استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. لكن البعض الآخر منهم يرى بأن نتنياهو لم يسلك هذا السبيل تحسباً من التحرك الجماهيري بل ثمة أسباب أخرى تحدو به للمرونة في عملية استئناف المفاوضات.
من المرجح أن يركز نتنياهو جل اهتمامه على الاحتجاجات التي تدعو إليها السلطة الفلسطينية في 20 أيلول عشية تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قد يفضي إلى الاعتراف (بأغلبية ساحقة) بالدولة الفلسطينية (على الرغم من عدم وجود نتائج عملية في أرض الواقع لهذا التصويت إن لم يلق تأييداً من مجلس الأمن الذي تعهدت به الولايات المتحدة باستخدام حق النقض إزاء التصويت) الأمر الذي تسعى إسرائيل إلى تجنبه وتسعى إدارة أوباما وتبذل قصارى جهودها كي تحول دون عرضه في الأمم المتحدة عبر سعيها لاستئناف المفاوضات التي فشلت باستمرار نظرا للهوة العميقة بين مطالب الجانبين. لذلك نجد أن نتنياهو قد لجأ إلى بعض التحركات التي تعطي انطباعاً يفضي إلى الاعتقاد بأنه يمارس نوعا من المرونة الجديدة.
أشار تقرير تلفزيوني إخباري إسرائيلي أذيع يوم الاثنين الفائت بأن تحولاً سياسيا كبيراً قد طرأ وأن نتنياهو بات على وشك القبول بالتفاوض على أساس حدود عام 1967 مع إجراء تبادل للأراضي يتفق عليه. علما بأنه قد سبق له وأن رفض اعتبار هذا الأمر نقطة البدء في المحادثات مع الفلسطينيين مناقضا في ذلك رغبات الرئيس أوباما الذي أكد مرارا وتكرارا في خطابه السياسي الذي ألقاه في شهر أيار على تنفيذ هذا الأمر ، لذلك اعتبرت وسائل الإعلام بأن ما أعلن عنه يعتبر مؤشرا عن تحول كبير في سياسة نتنياهو.
لم يتوان مساعدو رئيس الوزراء عن التأكيد لوسائل الإعلام بأن نتنياهو مازال متمسكاً برفضه الانسحاب إلى حدود عام 1967 وبأنه يخطط للتفاوض على قضايا تتعلق بتبادل الأراضي، ذلك الإجراء الذي ينسجم مع الجهود التي تبذلها إدارة أوباما للتوصل لجولة جديدة من المحادثات عبر إعادة صياغة الشروط الإسرائيلية بحيث تجعلها توحي (بشكل مراوغ) بأنها تمثل استجابة للمطالب الفلسطينية والأوروبية وذلك وفقا لرؤية المفاوض الإسرائيلي السابق دانيال ليفي الذي يقول بأن المقترحات الأميركية الجديدة قد تمت بلورتها مع القيادة الإسرائيلية، حيث يبدو منها بشكل واضح محاباة الجانب الأميركي بشدة للمطالب الإسرائيلية. ففي الحين الذي يفترض به أن يكون التفاوض على حدود 4 حزيران 1967 نجد أن الطرفين يتفاوضان على حدود مختلفة عن الحدود التي كانت موجودة قبل هذا التاريخ أو بالمعنى الفعلي الأخذ بالاعتبار التغيرات التي طرأت على مدى ال 44 سنة الماضية بما في ذلك الحقائق الديمغرافية الجديدة على الأرض واحتياجات الجانبين.
ذكر ليفي بتقريره أن الولايات المتحدة قد فشلت في الضغط على اللجنة الرباعية لتبني رؤيتها التي عرضتها في الاجتماع الأخير الذي تم في واشنطن. وأشار إلى الحديث الذي جرى بين جورج دبليو بوش وارئيل شارون الذي يدل على انحياز الولايات المتحدة للمطالب الإسرائيلية في الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية القائمة في الضفة الغربية، لكن هذا الأمر لم يحظ بموافقة المجتمع الدولي الذي رأى بأن ما يسمى بالحقائق الديمغرافية المتمثلة بالمستوطنات التي يبلغ عدد سكانها نصف مليون إسرائيلي قد أنشئت على أرض تم احتلالها من قبل إسرائيل في حرب عام 1967 ويعتبر احتلالها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
ذكر ليفي أيضا بأن الولايات المتحدة قد تطلب من الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية ووطن للشعب اليهودي، ذلك بناء على رغبة نتنياهو. لكن هذا الطلب لن يلق قبولا من الفلسطينيين الذين ينظرون إليه بأنه وسيلة لسلب اللاجئين الفلسطينيين حقوقهم قبل جلوسهم على طاولة المفاوضات.
تبذل الولايات المتحدة مساعيها في الحصول على تأييد الرباعية لبيان يحول دون اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية دون أن تبدي موقفها إزاء تجميد بناء المستوطنات الذي تؤكد عليه القيادة الفلسطينية والذي سبق وأن تبنته إدارة أوباما ثم أسقطته من أجندتها نتيجة لضغط نتنياهو عليها للتنازل عن هذا المطلب.. لكننا نعتقد بأن محمود عباس لن يتخلى عن هذا الأمر بتلك البساطة.
إن الموقف الإسرائيلي الجديد الذي يبدو في ظاهره بأنه يتم بضغط من الولايات المتحدة لتنفيذ ما تطلبه ليس بالأمر الجديد ولن يقبل به عباس إلا في الأحوال التي يخشى بها من انهيار علاقاته مع واشنطن.
وإن لم يحدث ما ذكر، ومضت الأمم المتحدة بتصويتها فإن نتنياهو لن يتورع عن القول بان التعنت الفلسطيني هو السبب الرئيس في فشل المفاوضات. وما يجدر بالإشارة، ان نتنياهو وعباس لن يتوصلا إلى مرحلة التفاوض بل سيقتصر الأمر على لقاء بينهما بحضور ممثلين عن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بغية خداع الرأي العام العالمي. وإن ما يظهره نتنياهو من استعداد للتفاوض بشأن الحدود لن يكون إلا وفقاً لشروطه وعند سحب الفلسطينيين مطلبهم من الأمم المتحدة وذلك أقصى ما يمكن أن يقدمه نتنياهو في هذا المضمار.
أما في حال مضي الأمم المتحدة بتصويتها على القرار فإن نتنياهو لن يتورع عن القول بأن التعنت الفلسطيني هو السبب الرئيس في فشل المفاوضات. ومن غير المستبعد أن يعمد نتنياهو وعباس إلى الاجتماع بهدف خداع الرأي العام بجلوسهما معا على طاولة المفاوضات بحضور الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، وذلك بعد التوصل إلى إقناع الفلسطينيين بسحب مطلبهم من الأمم المتحدة، لكننا نرى بأن ما يقدم عليه نتنياهو من تحرك ليس في واقعه إلا استمراراً للجولات الدبلوماسية الإسرائيلية-الفلسطينية العقيمة.
بقلم توني كارن