إذ تتجلى ركيزة نجاح جهودها في اجتذاب العقول الشابة من أنحاء العالم, فتنتشر دور تعليم اللغة الخاصة بالبلد في أصقاع الأرض و يكثر الراغبون في تعلم لغته و النهل من حضارته. إذ لا يمكن للغة أن تلقى الاهتمام و الرغبة في تعلّمها إلا بوجود نتاج حضاري فكري ثقافي تنقله إلى محبّيها والذين غالباً ما تسحرهم حضارة و ثقافة شعوب تلك اللغة.
كان و لم يزل للدول الأوربية المتطورة بالإضافة إلى أميركا النصيب الأكبر من التأثير على فكر الشباب العربي عن طريق برامجها التلفزيونية و إعلامها المتطور و المواقع الالكترونية و اهتمامها بنشر نتاجها الأدبي في دول العالم. فأين دور الدول العربية في اجتذاب عقول شبابها إلى حضارتهم و ثقافتهم و لغتهم؟
يرى الكثير من المفكرين العرب مثل أدونيس و جبران خليل جبران و إدوارد سعيد و فاطمة المرنيسي أن اللجوء إلى ثقافات الغرب للإلهام هو ضرورة في مجالات الفنون و الأدب و أن المبرر هو وجود هوة كبيرة يصعب ردمها بين تراثنا الحضاري من جهة و التجارب التي يعيشها الفرد العربي في العصر الحديث من جهة أخرى. إن حال الأدب و الثقافة العربية كحال باقي نتاج الفكر العربي في مجال الإعلام و التلفزيون و الفنون و غيرها, إذ تبقى كل تلك العناصر في مؤخرة سباق التأثير الحضاري مقارنة بنتاج الدول المتطورة و جهودها الحثيثة لإتقان و تطور دائمين.
اللغة العربية و إتقانها
قلما يتقن كاتب اللغة العربية استخدامها إتقاناً تاماً, فهي تتميز بتعقيدها و تعدد طرق التعبير بها ما يزيد من تباين مستويات مستخدميها على مستويات مستخدمي اللغة الإنكليزية. إذ إنّ تجنب الأخطاء النحوية و الإملائية لا يجعل منك خبيراً متقناً للغة. فغالباً ما يتردد في ذهن الكاتب الراغب في اكتمال خبرته تساؤلات عديدة عن بنية الجملة محاولاً أن يحسن صياغتها, و عن اختلافات المعنى البسيطة بين المرادفات من الكلمات, و عن الصفات التي ترافق أسماء محددة لشيوع استخدامهما معاً.
كنت أخطط لكتابة مقالٍ عن الجمعيات التي تعنى بتحسين مستوى اللغة العربية لدى الشباب العرب. زرت الموقع الالكتروني لإحداها فإذا به مليء بالأخطاء القاعدية و الجمل الركيكة التي لا تمتّ لكمال لغتنا بصلة. و بشكل عام, فإن معظم متقني لغتنا من غير المختصّين بدراستها هم من اعتمدوا على القراءة لتطوير السليقة و حسّ اللغة بدلاً من اعتمادهم على ما تعلموه في سنين المدرسة من قواعد صعبة و معقدة. فهل تخضع قواعد اللغة و سبل تعليمها للتدقيق المستمر من أجل أن تحظى بالتطور الدائم الذي تلقاه لغات الدول المتطورة؟ و هل بلغنا من اليأس أن تنادي إحدى جمعيات اللغة الشبابَ لاستخدام الأحرف العربية بدلاً من الإنكليزية على تويتر؟
نهضة اللغة في نهضةِ الحضارة
تتراكم تعابير و مفردات اللغة الأصلية في أذهان الأفراد منذ الصغر عندما يبدؤون باختبار مختلف الأحداث و المشاعر و الأفكار و لا يتوقف ذلك التراكم على مر السنين, فكلما ارتقت نوعية الأمور التي يمر بها الفرد و القضايا التي تشغل فكره و كلما زادت أشكال تواصله مع العالم عمقاً فإنه يكتسب معرفة أكبر باللغة الأم و يساهم في إغنائها أيضاً. إذ إن تنوع و عمق النتاج الفكري لحضارة أو شعب ما ( إن كانت كتباً أو روايات أو برامج تلفزيونية) يسمو باللغة و يوسع من دورها و تعقيدها الإيجابي في خدمة الإبداع الحضاري.
إذا قارنا انتشار و سهولة وصول اللغة الإنكليزية إلى دول العالم مع مستوى وصول اللغة العربية إلى شبابنا العربي (إذ لا يسعنا أن نضع مدى وصول لغتنا إلى دول العالم في موقع المقارنة بعد) فإننا سنرى هبوطاً عاماً في مستوى النتاج الفكري الثقافي الذي لا يمكن للغة أن تلقى الاهتمام و الانتشار إلا من خلاله. إذ إن الجزء الأكبر من ذلك النتاج المقرون باللغة العربية في الحاضر لا يحتاج إلا تعابير محدودة و مفردات سطحية, فلا تجد اللغة ما تغنيه و تغتني منه.
وفقاً لذلك المنظور عن علاقة حال اللغة بالمستوى الفكري, فلا يسعنا أن نصِف اللغة العربية إلا بأنها آثار حضارة مضى عصر نهضتها و خبا التنوّر من عقول معظم أفرادها, فلم تترك لنا إلا تلك السعة اللغوية التي احتوت منذ زمن بعيد صرح التنّور و النهضة و باتت كالثوب الفضفاض على بدن حضارتنا الهزيل في الحاضر.
كم من المؤلم أن نقرأ عن الكيان الصهيوني و هو ماض في تطوره ليسبق كل الدول العربية على صغر عمره و تنوع أصول أفراده, فبالرغم من كل ما يحمله أفراده من تعصب و كراهية و انعدام للقيم الإنسانية تجاه شعوب الأرض فقد اجتمعوا على إرادتهم الواحدة و ترابطهم للنهوض بذلك الكيان الغاصب. في كتاب (مقدمة في اللغة) لفيكتوريا فورمكن و روبرت رودمان و نينا هايامز:
"قلّما يتم إعادة إحياء لغة ما من السجلّات المكتوبة. كانت اللغة العبرية الأصلية و لقرون عدة لا تستخدم إلا في الشعائر الدينية؛ أما في الحاضر, بقليل من التحديث و رغبة كبيرة من اليهود لتكلم لغة أسلافهم, فهي اللغة الرسمية «لإسرائيل».