الماضي.... أظنني سأكتفي بإهدائه قبلة عفوية.... تتلاشى الطرق فجأة، فتعبرني آلهة المكان وأصحو... إنه لا بد رجل يطرق الباب ولا يدخل.
يصفق الجمهور... كأنه يطالبني بنهاية ما..... بأدلة تثبت أنني على مقربة من البكاء، ولكن رغبتي للبوح وسرد تفاصيل جسدي العاري أمام مرآتهم الفضولية تفوق قوانين الجاذبية، لهذا عزفت ليلتها على المسرح كثيراً عزفت ما أعرف.... وما أتوقعه ويحدث أن تمر أخطاء الدرس الأول هنا حيث لا يجب أن تكون، فتبدو أجمل بلا ارتباك ولا خجل ربما لأن تذكارات مسافر في مطار هي الأثمن، اخترقني ضجيج النهاية... يا للحنين! كأنني غبت معك عمراً على شرفة الأمل.... لك يا صديقي أن تسميني عازفة أو قطعة خشب تعري نفسها حتى الأعماق ولا شيء.... ولي أن أدعوك قبلة الماضي... مضيت وسط كم هائل من الذكريات والإطراءات لحفلة ناجحة أخرى.
كلنا في لحظة الرحيل نعلم أن الحياة أو جزءاً منها قد فاتنا.... فنندم أما أنا فأعلم قبل الرحيل وأندم، يالي من امرأة ساذجة؟! ماذا قد تفيدني فلسفة كهذه؟ هل ستشعل الأنوار في وحدتي..؟! وهل ستصفق لحضوري وتلف خدي بقبلة تعني أني وجدتك.. دفعت باب المنزل بشيء من الحضور، اصطدمت بفضاء أسود طليق وبازدحامك يطوف المكان بلا إذن تلك جريدتك مازالت فوق التلفاز تقرأ ملامح الوقت... غليونك يحرق في آخر الصبر... وأنا وشيء مما ارتديته في آخر ليلة نلتقط آخر أنفاسك... ألقيت بنفسي على سرير انتظارك... أبكي حتى يصرخ ضوء الصباح معلناً نهاية طقوس الحزن.
البارحة كما كل الأيام ترهقني بوجودك المفاجئ حيث لا أتوقعك، كما لم أتوقع قصتنا التي بدأت بتلك الأمور الاعتيادية ثم صارت أمراً آخر... عرفتك منذ أربعة أشهر في صف البيانو، الأستاذ خالد استوقفني وجودك، واستوقفتك تلك الدمعة غير المبررة، وصار الفضول يزيدني تورطاً بقصة اعتيادية، وباتت حماقات العشرين مكشوفة لك، كتصادم يدي معك على البيانو لتأخذك رجلاً في لحظة تصادم، وعدم تفويتي لأي من حفلاتك مهما ضاق بي الوقت فكونك لم تكن برجل الإجابات جعلني أتعلق بموعد تخلقه الدروس وحفلة برفقة الغرباء.... كنت وحدك قادراً على تعليمي كيف أقود بتهور دون أن أصاب بأذى، وكيف أمجد عابر سبيل بقصيدة طويلة دون سؤاله عن انجازاته وكيف أترك نفسي على عتبة ميتم لأنني ولدت من حرمان.. كنت بلا شك الرجل المناسب.
في كل حفلاتي انتظرتك عند باب المسرح طويلاً كما لم أنتظر نفسي وأمومتي، أحببتك كشيء يختصر الأشياء وأمسيات الاستسلام لرجل عابر في أغنية عاطفية أو إطار خشبي لوقع الذاكرة. ولكنك لطالما أنكرتني... وحافظت علي بسرية في دروسك وحفلاتك بحجة أنني ابنة أنجبتها في لحظة الحاجة لوطن، كأنك كنت حريصاً أن تقود بتهور دون أن تصاب بأذى.؟ أتساءل دوماً... ماذا سيحدث لو أنني بادرت إلى تقبيلك؟... وكيف تبرر القبل المباغتة لرجل في الأربعين... هل سيكفي فنجان قهوة أول لنعبر ذلك الخط الفاصل بين الشاطئ والموت... ربما سأكتب لك رسالة عبثية ولكن صناديق البريد تكره العبث.... وتحب العناوين، كنت بحاجة أن أطلق على ما يجري بيننا عنواناً ما.... وحدها غربتنا تلك تتجاهل المحطات فتدفعنا لتسمية المكان بالبارحة والحلم بموعد السادسة، لهذا ومنذ أن صرت شهيدة الانتظار قررت تسمية الأشياء بأسمائها.
تدق السادسة... إنه موعد حفلتك... وضبت شيئاً من ذكرياتي على عجل... ودعت المكان بشمعة صليت أمامها كثيراً ربما في محاولة للتفاوض مع القدر... كان لابد أن آتي... جلست أمامك تماماً... في مواجهة الذاكرة.. حيث وجودك على المسرح على بعد قبلة تعذب شهوتي... كنت منهمكاً في تحضير بعض البروفات وتجهيزات اللحظة الأخيرة وكونك لم تنتبه لوجودي بين الجمهور أغضبني ودفعني أن أوصد أبواب الحزن وأصمت... جعلني أفكر مرة أخرى لمَ عليَّ أن آتي لأحارب مارد النسيان؟ لمَ تواجدي هنا يا ترى؟!؟ أيقظني بكائي... رحلت الموسيقا ومرايا الفضول،مازال ظلي وحيداً في مسرح فارغ يصفق للغياب، تفقدت أشياءك من حولي... ربطة عنقك... الجريدة... وغليون النسيان وبكيت كثيراً لأنني تعثرت مجدداً بعابر كاد أن يشبهك.... مرة أخرى.... مرة أخرى يا أشياء أبي.