وهذا هو المرجح- سينعكس سلباً على نشاطها السياسي والعسكري حول العالم، نظراً لانتشار قواتها وقواعدها في أكثر من أربعين دولة، إلى جانب وجودها الاستخباراتي والدبلوماسي الخارج عن الأعراف والتقاليد في أنحاء متفرقة من العالم، وهذا ما يفرض كلفة مالية باهظة لم تعد واشنطن قادرة على الإيفاء بها في ظل عجز موازنتها وضعف ثقة العالم باقتصادها وعملتها.
ولاشك أن الخطوة غير المسبوقة التي قامت بها وكالة ستاندرا آند بورز للتصنيف الائتماني عبر تخفيض علامة الدين الأميركي من درجته القصوى قد شكلت تحذيراً جدياً لواشنطن وخاصة بعدما تسببت هذه الخطوة بخسائر كبيرة للمستثمرين في البورصة الأميركية قدرت بتريليون دولار خلال يوم واحد.
وعلى عكس الاقتصادات المستقلة، فإن أي انهيار للاقتصاد الأميركي يمكن أن يتسبب بانهيارات اقتصادية متلاحقة في أماكن أخرى من العالم نظراً لطبيعة الدور الاحتكاري والسياسة المالية التي تنتهجها واشنطن، والتي تؤثر بشكل مباشر في اقتصادات الدول الأخرى وفي سياساتها.
ومعلوم أن الولايات المتحدة تقوم بتوظيف واستثمار قوتها وهيمنتها السياسية والدبلوماسية في العالم لتنعم بالرخاء الاقتصادي على حساب وجع وآلام الشعوب الأخرى وفي كثير من الأحيان تلجأ لاستخدام قوتها العسكرية الضخمة لتحقيق هذا الغرض، وهذا ما يفسر وجود قواعدها العسكرية في الكثير من مناطق العالم ولجوئها للحروب والعقوبات من أجل الحصول على النفط والغاز وبقية ثروات الدول الأخرى، وهذا النشاط السياسي والدبلوماسي والعسكري غير الطبيعي يتطلب إنفاق مبالغ هائلة حتى يحقق أغراضه وأهدافه غير المعلنة، وهكذا يمكن فهم أسباب ومبررات الأزمة المالية والاقتصادية التي اجتاحت أميركا قبل ثلاث سنوات، والتي انتقلت عدواها إلى بقية دول العالم بفعل التداخل والترابط بين الاقتصاد الأميركي واقتصادات هذه الدول.
أما اليوم وبعد العديد من الخضات القاسية التي تلقاها العالم جراء السياسة الاقتصادية الأميركية الفاشلة خلال السنوات الماضية فقد بدأت العديد من الدول بمراجعة حساباتها في محاولة للنأي بنفسها عن التعامل بالدولار الأميركي والبحث عن عملة بديلة تكون أكثر استقراراً في الأسواق والتعاملات، وقد بدأت أولى هذه المراجعات في الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر دائن للولايات المتحدة، حيث باشر مسؤولوها بالتفكير بمبادلات ثنائية مع شركائها التجاريين بعملة أخرى غير الدولار، وإذا ما تكرر مثل هذا التصميم والقناعة لدى تكتلات وقوى اقتصادية أخرى كالاتحاد الأوروبي وروسيا والهند والبرازيل..الخ، فمن المؤكد أن عصر الهيمنة الاقتصادية الأميركية سيبدأ بالزوال، وما يعزز هذه القناعة هو أن الولايات المتحدة لم تكسب أيا من حروبها في العقد الأخير لا بل أنها بدأت فعليا رحلة الهروب من العديد من ساحات المواجهة والصدام سواء في العراق أم في أفغانستان.
ولاشك أن استمرار الأزمة الاقتصادية الأميركية على هذا النحو مع استمرار فشل إدارة أوباما في التوصل إلى حلول إسعافية توقف هذا التدهور سيفاقم الوضع أكثر فأكثر، وبالتالي سيجد العالم نفسه مضطراً للبحث عن حلول فردية خارج سيطرة وتأثير واشنطن، وهذا ما سيمهد لانسحاب أميركي تدريجي خارج إطار الهيمنة التي طبعت السلوك الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية.
وللدلالة على عمق الأزمة الأميركية قالت منظمة التجارة العالمية:إن الصادرات الأميركية آخذة في التراجع بنسب غير مسبوقة لصالح رواج الصادرات الصينية، كما كان للتراجع في سعر صرف الدولار تأثير واضح على القدرة التنافسية للبضائع الأميركية، لتصبح معظم المنتجات التي يستهلكها الأميركيون مدموغة بعبارة (صنع في الصين).
وتتحدث بعض الإحصائيات عن إغلاق أكثر من عشرة آلاف مصنع أميركي في السنوات الماضية، ومع إلغاء الوظائف في هذه المصانع ازدادت أعداد العاطلين عن العمل وارتفعت نسبة الفروقات المعاشية بين حاملي الشهادات والعمال غير المؤهلين كذلك بين المناطق وبين المجموعات الأثنية.
وفي مقابل ذلك بقي قطاع الخدمات سيد الاقتصاد الأميركي وعلى الأخص قطاع الخدمات المالية، ولكن مع إفلاس وإغلاق المزيد من المصارف والبنوك الأميركية أصبحت الأزمة أكثر تعقيداً وبرزت حاجة أميركا أكثر فأكثر إلى انفتاح الدول والاقتصادات الناشئة على الخدمات المالية الأجنبية.
ولكن رغم محاولة أوباما طمأنة الأميركيين إلى مستقبلهم وتأكيده على الثقة باقتصاد بلاده بقوله: ما زال لدينا أفضل الجامعات وبعض العمال الأكثر إنتاجية والمجتمعات الأكثر ابتكاراً والمقاولون الأكثر مغامرة، إلا أن وصفه المفعم بالوطنية والحماسة الانتخابية على أبواب ترشحه لولاية ثانية غير مضمونة لم يخفف من وتيرة القلق لدى غالبية الأميركيين لأن مثل هذه العوامل لاتعالج البطالة التي تفتك بالشباب الأميركي ولاتحل أزمة الدين الأميركي المتفاقمة ولا تعيد الثقة بالاقتصاد مع وجود مخاطر سياسية وعسكرية سيترتب عليها انعكاسات اقتصادية متزايدة... وحين يفشل الاقتصاد تنهار السياسة والعكس صحيح، وهذا ما يلخص الحالة الأميركية الراهنة.