وخيّل للعالم أن الجيش السريّ الأيرلندي عاد ليصول ويجول لكن مع اختلاف بسيط هو عجز الحكومة البريطانية الواضح الفاضح في التعامل مع الظرف الجديد الطارئ الذي فرض نفسه حضوراً وتطوراً وتفاعلاً من قبل قوى وجدت نفسها مكرهة على الانغماس في أدقّ تفاصيل المشهد.
في بداية الحدث تعاملت الحكومة البريطانية مع الموضوع بشيء من الاستخفاف معتقدة أنه لن يكون إلاّ زوبعة في فنجان، وأنّ شرارة الاحتجاجات لن تملك القدرة على التحوّل ناراً تذكّر بذلك الحريق الذي عرفته لندن قبل قرون عدّة وأتى على أجزاء كبيرة من المدينة.
لكن سرعان ما خرج الحدث عن نطاق السيطرة، وبدا أنّ الزوبعة التي كانت حبيسة الفنجان تخرج منه وتوشك أن تصبح إعصاراً يهزّ السنديانة اللندنية هزّاً عنيفاً وربّما حدّثته نفسه بإطالة أمد الهزّ ورفع وتيرته حتّى اقتلاعها من جذورها.
وأفاق العالم على مشهد لم يعتدْ عليه من قبل ورأى ستّة عشر ألف شرطيّ بريطانيّ وقد انتشروا في العاصمة يلاحقون مثيري الشغب مستخدمين معهم أعلى درجات القسوة والعنف، وبدأ رئيس الوزراء ( ديفيد كاميرون) بالشعور أنه في سباق محموم مع الوقت وعليه أن يضغطه بأقصى ما يستطيع خوفاً من انتشار أعمال الشغب إلى مدن وضواحٍ أخرى في البلاد.
لكنّ الأسبوع الدامي الذي عاشته بريطانيا كان كافياً ليكشط طبقة الجليد مظهراً كلّ ما كانت تواريه من عيوب ونواقص ومشكلات اجتماعية واحتقان؛ سيبقى مرشّحاً للاندفاع على السطح في الأيام القادمة إذا لم تحسن الحكومة التعامل معه ومعالجة أسبابه.
بعد هذا الأسبوع تجد الحكومة البريطانية لزاماً عليها الاعتراف بوجود مشكلات اجتماعية كانت تلقيها وراء ظهرها لأنّ علاجها كان يتطلّب بذل الجهود المضنية ولم تكن على ما يبدو مستعدّة لبذل تلك الجهود، واضطّرت إلى الاعتراف بأن حلّ المشكلة يبدأ بالتصدّي لأسباب الاحتقان الاجتماعيّ وليس بتنفيذ حملة اعتقالات ذهب فيها الصالح بالطالح.
هذا الاعتراف هو الذي دفع وزير المالية البريطاني (جورج أوزبورن) ليقول: «ثمة مجتمعات تركت في المؤخرة من جانب بقية البلاد.. إنها مجتمعات حرمت من شريان الحياة الاقتصادي لبقية البلاد».
لقد كاد هذا الحرمان يقطّع شرايين البلاد تقطيعاً يصعب معه إعادتها لتعمل بصورة طبيعيّة مرّة أخرى، وقد فطنت الحكومة البريطانية إلى قرع هذا الجرس وأخذت كلّ ما حمله من تهديد على محمل الجدّ.
وأضاف أوزبورن: إن إنفاق الأموال على المشكلة ليس حلاًّ، وأن الحكومة ستمضي قدماً في الخفض الحاد لأعداد أفراد الشرطة الذين انتقدهم كاميرون لأسلوب تعاملهم مع أعمال العنف.
وتابع بقوله: إنّ الحكومة ما زالت عازمة على خفض ملياري جنيه استرليني من ميزانية الشرطة، ما يعني فقدان نحو 30 ألف وظيفة.
وقال رئيس بلدية لندن المحافظ بوريس جونسون: إنّ أعمال العنف التي اندلعت منذ أسبوع بعد مظاهرة ضدّ قتل مشتبه فيه برصاص الشرطة، أضعفت حجة تلك التخفيضات.
إنّ الحقيقة التي عجزت الحكومة البريطانية عن حجبها هي وجود كمّ كبير من الظلم الاجتماعيّ والسياسيّ نتج عن إبقاء الكثير من الطبقات الاجتماعية في الأحياء الفقيرة مهمّشة محرومة من الخدمات، الأمر الذي عرّض كاميرون لانتقادات من أعضاء في حزبه المحافظ لأنه كان ليبرالياً أكثر من اللازم بشأن الجريمة والعقاب، واتّخذ نهجاً متشدداً بشأن أعمال العنف في البيانات التي أدلى بها الأسبوع الماضي بعدما عاد من عطلته الصيفية ودعا البرلمان إلى الانعقاد.
كذلك كان عرضة لسهام النقد بسبب الإجراءات التقشفية التي تطبقها حكومته للتعامل مع عبء المديونية الثقيل.
وعندما وجد رئيس الوزراء البريطانيّ نفسه في مواجهة حالة لم يعهدها من قبل اختلطت الصورة في ذهنه ملتبسة مشوّشة فلم يجد من وسيلة للحلّ إلاّ باستدعاء خبير جرائم الشوارع الأميركي (وليام براتون) لتقديم المشورة للحكومة بشأن كيفية التعامل مع أعمال العنف في بريطانيا.، وكان هذا الاستدعاء سبباً لانهيال زخّات جديدة من الانتقاد عليه ورأى منتقدوه أنّ الحلّ يكمن برفع المخصصات الماليّة لجهاز الشرطة وليس بالاستعانة بخبير خارجيّ.
وبعد أن هدأت الأمور نسبياً في بريطانيا تكشّفت الصورة عن إدانة المحاكم حتى الآن سبعمائة شخص بارتكاب أعمال نهب وعنف واعتداء على الممتلكات العامة، وإيقاف الشرطة منذ بداية أعمال العنف أكثر من 1700 شخص، وهذه المعلومات تشير إلى حجم المشكلة التي ألقت بحملها على البلاد وأدّت إلى ما وصلت إليه الأمور.
والحقيقة الأخرى التي ستفرض حضورها على المشهد العام في بريطانيا هي أنّ الحكومة عالجت المشكلة بالمسكّنات، الأمر الذي سيبقيها رماداً مرشّحاً للتحوّل ناراً كلّ لحظة، ولا ريبَ أنّ اشتعالها مستقبلاً سيكون ذا نتائج مأساوية كبيرة وسيضع الحكومة في مواجهة امتحان أصعب وهي التي سبق لها أن اجتازت الامتحان الأول بنجاح هو أقرب إلى الرسوب منه إلى النجاح.