فكل من يضع الجمال فوق المنفعة في تقديره لشؤون الحياة يكون رومانسياً، وكل من يأبى الإذعان للعقل حين تقتضيه التضحية بعواطفه إنما يستجيب في ذلك لنزعة رومانسية أصيلة، وكل من يتمرد على القيود الاجتماعية ويهوى العزلة ويمجد الحب وينشد عنف الأهواء ويستسيغ الكآبة ويمقت الواقع ويفرح بالأحلام ويلجأ إلى ظلالها هرباً من هجير البيئة والوسط الاجتماعي يكون في حقيقة أمره رومانسي الاتجاه، وكل من يجاهر بإيثارالريف والطبيعة على المدينة والعبقرية على الذوق والذكريات القومية على أمجاد التواريخ والحضارات الغائرة في القدم هو بمعنى من المعاني يمتلك روحاً رومانسية حالمة.
-2-
إن نفسية الرومانسي تتكون بصورة رئيسية من عدم الرضا عن الواقع ومن القلق أمام الحياة ومن الحزن الذي قد لايكون له داع في أكثر الأحيان، ومن خلل التوازن بين الملكات (وبهذا المعنى كان «غوته» يسمي ماهو سليم كلاسيكياً وماهو مريض رومانسياً) ومن الاحتجاج على ماهو موجود والطموح إلى شيء آخر..
والصفة الغالبة على الرومانسي اندفاعه إلى الجمال المطلق غير المحدود.. إلى مالا نهاية لجماله وهذا التطرف هو نتيجة الانفصام الداخلي بين المثل الأعلى والواقع ما يجعله يقف على حقيقة العظمة الكامنة في الطاقة الروحية للإنسان التي تخلق التوازن الدائم بين المتناقضات فيصبح الجمال المادي وبالتالي النفسي أحد أوجه التفلت من وطأة الوجود في الوجود ومن الشعور بالفراغ من أنك تعيش مع البشر، من هنا قولة «ريلكه»: «إننا في حقيقتنا نحيا في وحدة مخيفة» وقد لايخفف من غلوائها ويهدهد شدتها إلا تحسسنا للجمال بمختلف أنواعه وأشكال تجلياته.
-3-
والرومانسي يعتبر نفسه (مركز الكون) وتتضخم (أناه) بشكل فظ أحياناً ويسبغ على ذاته صفة العبقرية ويرى في شخصه كائناً استثنائياً فريدا من نوعه، ولايتميز عن سائر الناس فحسب بل عن سائر رجال الأدب، ويخيل إليه أنه مارد جبار سقط عن الموقع الرفيع الذي ينبغي أن يحتله، فهو يجمع في إهابه بين الأنانية والكبرياء والمبدع الرومانسي يؤمن بأن الوجود وجد في سبيله وليس هو الذي خُلق في سبيل الوجود، نفسه هي البداية والنهاية، سعادتها وتعاستها هما قطبا الحياة، حقه على المجتمع أكثر من حق المجتمع عليه، يرفض المجتمع ويتنكرله ويعتقد أن المجتمع يجب أن يكون في خدمة الفرد وليس الفرد في خدمة المجتمع، والرومانسي يطلب خلاصه وحده بسبب تشرنقه على ذاته ولايعبأ بخلاص الآخرين ولاتهمه مصائرهم وتراه غالباً ما يعود إلى دخله الفردي وتتبدى هذه العودة إلى جوانيته بمناح عديدة أظهرها المنحى اللغوي عندما يلجأ بإصرار دؤوب على المبالغة في استعمال ضمير المتكلم (أنا) البارز منه والمستتر و(ياء) المتكلم و(تاء الفاعل) وتكرار هذه الضمائر في مناشطه الحياتية على اختلاف أنواعها وبروزها كظاهرة متفشية يعبر بها عن توحده الذاتي وانغلاقه على نفسه وانطوائه على جوارحه، يستمد منها ويغنيها، ويقيم معها حواره الاجتماعي المفصح عن رفضه العالم الخارجي ومافيه من صور وأحداث ومآسٍ ومواقف واستلابات موجعة تأباها روحه الرومانسية بصمت لاينطق ولو بكلمة إدانة وتتعالى عليها وترمقها بوابل من السخط والاشمئزاز دون أن يستطيع حيالها تغييراً أو تعبيراً.
-4-
لقد قيل ولايزال يقال: إن الرومانسيين يبالغون ملياً في الإفصاح عما يخالجهم من آلام وإن هذه المبالغة تفقدهم الكثير من طبيعتهم العفوية فيقع أغالبيتهم في (الكذب) أحياناً وفي (التكلف) أحياناً أخرى ونحن نجد أن مثل هذه الاتهامات التي وجهها النقاد إلى الرومانسية الأوروبية وممثليها إنما تصح وتثبت في معظم حالاتها بحق الذين يمارسون الشعر والأدب مراساً (مذهبياً) بمعنى أنهم يعتنقون الرومانسية مثلاً كمذهب أدبي إبداعي أو مدرسة فكرية أو أسلوبية، يروجون عن تجاربهم ويستجيبون لما يملي عليهم تراثهم الثقافي وأوضاعهم الاجتماعية فإنهم بحكم موقفهم ذاك ظلوا أبعد مايكونون عن المبالغة والكذب والتصنع وتزييف النفس عند التعبير عنها.
-5-
والرومانسية تسير هي والشباب جنباً إلى جنب فالإنسان أياً كانت منابعه ومشاربه الفكرية وعقيدته وشرعته الفلسفية يصبح مع تقدم العمر أقرب إلى الكلاسيكية في أقواله وأفعاله وتصرفاته، ولو كان ماضيه ثورياً انقلابياً وتأخذ روحه التي كانت متوهجة في الذبول.. على أن حياة الرومانسيين لم تكن تستمر بعد مضي شبابهم الرومانسي في الأغلب.. فقد كان الموت يصيبهم في وقت مبكر: الموت الطبيعي (نوفالس، شيلي، كيتس) الذي يسببه غالباً مرض يفسر مافي إلهامهم من حمى وكآبة وتوتر عصبي وشعور بالقنوط واليأس والمرارة فيختفون من الحياة قبل أن يتجاوزوا الثلاثين.. الموت في المبارزة (بوشكين، ليرمنتوف) أو في ساحات القتال (بيتوفي) أو في النضال من أجل قضية نبيلة كما كان مصير الشاعر الإنكليزي (بايرون) الذي قضى في ربيعه السادس والثلاثين دفاعاً عن قضية الاستقلال القومي لليونان، أو الموت انتحاراً كما فعل الشاعر الانكليزي المرهص بالرومانسية (تشاترتون) الذي انتحر يأساً وبؤساً قبل أن يتم ربيعه الثامن عشر فجاء الشعراء الرومانسيون فتأسوا به وأقدموا على الانتحار مثل (لارا- كليست- نيرفال).
-6-
إن الشاعر الرومانسي له دلالة على الليل خاصة لأنه يألفه ويستيقظ فيه بعد أن تخمد جلبة النهار وتخف ضوضاؤه ويتوهم خلال سهره فيه أنه سيد الوجود ومليكه، أو كأنه لاحي عليه من دونه ويعتبره صديقه الشخصي ومصدراً من مصادر إلهامه وينبوعاً من ينابيع وحيه، إذ يصطدم الرومانسي بصخر الواقع وتتهاوى أمامه المعادلة بين مايتوق إليه من نقاء وجمال وخير وحب ومايراه مجسداً على أرض الحياة من عكر وقبح وشر وكراهية وإذ ينفض يديه من زوال الليل وسطوع الشمس، يعتصم أبداً بالحلم وهو ابن الليل وريشة في جناحه تعويضاً عن دنس الواقع وهو ابن النهار يقظة وإشراقاً حيث تتحقق أمانيه بالوهم لأن قوادمه تتعثر على حجر الحقيقة فيرتد ويصد ويتخذ الحلم ملاذاً له من الخيبة الدامية فيرتحل إليه بخياله حيث تحقق الرغاب الكبيتة ذاتها بذاتها ولاتحول بها محاذير الواقع وشباكه ومستحيلاته أن يقع فريستها.. إنه العالم السديمي الذي يقتضي شروطاً للشوق واللهفة.. لامسافة بين القوة والفعل، تصمد فيه الأمنية المشتهاة ولا تخذل وتسفه وتخيب ويغدو الشعر خاصة هو المفتاح الذهبي البراق اللامع المتوهج الذي يفتح به الشاعر الرومانسي قصر الأحلام الفردوسي فيتخيل بأنه يحب ويكابد في حبه مع حبيبته فلن يكون الرومانسي رومانسياً حقاً مالم يحب ويتألم لأن الحب الحزين هو محور حياة الرومانسي، يعيش (داء عصره) وكل عصر، أي داء الكآبة والشكوى والتبرم والسخط والقنوط والتشاؤم، ولقد قضى كثير من الرومانسيين وهم في زهرة العمر، يقول ألفرد دوفيني (إني أحب جلال الألم البشري) أما «شيلي» فكان لسان حاله يقول إنما (الشاعر معدنه الألم).
ويرى بعض دارسي الرومانسية والرومانسيين أن غلبة المذهب الفرد الذاتي وطغيان الحساسية الفجائعية الروحية على نظرة الرومانسي للحياة ونفي كل ماهو إيجابي فيها عن عالمه واعتصامه بمستقبل الخيبات لايعني هذا كله أن الرومانسيات الأوروبية قد تقوقعت في برج عاجي وتخلصت من كل ارتباط بمعارك الإنسان المصيرية بل إن عدداً كبيراً من الرومانسيين آمنوا برسالة الأديب وبدوره الطليعي في بناء عالم جديد لبني البشر، ها هو (شلي) يقول: «أعترف بأني أحمل بين جوانحي شهوة عارمة لإصلاح العالم» أما (لامرتين) فقد كافح في سبيل النظام الجمهوري وقاتل مع الثوار عند المتاريس وكان يردد (العار لمن يجيز لنفسه الغناء بينما روما تحترق) ولم يحجم «ألفرد دي موسيه» عن تشبيه الشعر بأنه نوع من المدفعية، وهكذا يعتقد منظرو الرومانسية الأوروبيون بدءاً من مرحلة تشكلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أن العصر الذي عاش فيه الرومانسيون كان عصر مرانة على الحرية للشعوب، فما كان هناك مفر من أن تتحرر الرومانسية من قيود الذاتية والإعجاب بالذات بعض التحرر لتكتسب مضموناً سياسياً واجتماعياً، لكن من المفترض على الدارس أن يشير إلى أن نفراً من الرومانسيين ظلوا كماهم دون أن ينحرفوا عن «رومانسيتهم».
m.alskaf@man.com