وفي أقوالنا المأثورة نقرأ: إن كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب وهذه المقولة لاتجرد الكلام من قيمته فهو يعادل ثاني أكبر قيمة مادية لدى العرب في الزمن الذي صدر فيه مثل هذا القول إذ لم يتقدم الفضة وقتها إلا الذهب.
السكوت في بعض المواضع ذو قيمة ويقولون: قلة الكلام حكمة وهناك الكثير الكثير من هذا في الأقوال وفي الشعر وفي الرسائل وغير ذلك مما قالته العرب ونادراً ما نجد من يمجد (الثرثرة) بل إنها في عرفنا تحاكي العيب وتقترب من النقيصة ومن نقول عنه (ثرثاراً) فكأننا نشتمه
لكن هذا عكس ما توصلت إليه دراسة وقعت عليها على أحد المواقع الالكترونية وهي منقولة عن صحيفة ديلي إكسبريس ويقول ملخصها:
«إن أحاديث القيل والقال والنميمة واللغو في العمل مفيدة وتساعد على خفض مستويات التوتر لدى الموظفين وزيادة الإنتاج ووجدت الدراسة التي شملت (2000) موظف من مختلف أنحاء بريطانيا أن النميمة تثير العواطف مثل الضحك وتساعد على إطلاق هرمونات الشعور الجيد الطبيعية في جسم الإنسان والمعروفة باسم الأندروفين وخفض هرمون التوتر (الكورتيزول) الذي يضعف القدرة على التفكير.
وقالت الدراسة إن الغالبية العظمى من الموظفين البريطانيين تشعر بالسعادة بعد النميمة مع أو عن الزملاء ويعتقد 60٪ منهم تقريباً أن النميمة رفعت إنتاجيتهم في العمل بنسبة تزيد على 50٪ أفضل من زملائهم الهادئين.
وأضافت الدراسة أن المدمنين على النميمة واللغط الذين تتراوح أعمارهم بين 45، 54 عاماً لاحظوا فارقاً دراماتيكياً أكبر لمعدل خفقات القلب عندهم بعد أحاديث القيل والقال، ويعتقد 73٪ منهم أنها خفضت ضغط الدم.
ووجدت أيضاً أن الأشخاص فوق 55 عاماً هم أسعد مجموعة بعد النميمة وأكثرها إنتاجاً في العمل بعد القليل من المزاح.
وأشارت الدراسة إلى أن الطبيعة المرتاحة للثرثرة تعني أن الموظفين المدمنين عليها قادرون على العمل لمدة أطول وهم أكثر كفاءة من زملائهم الذين لا يحبون أحاديث القيل والقال.
فإلى أي حد ينطبق ما تقدم على واقعنا العملي في ميادين العمل وفي الأماكن الوظيفية؟
غالباً ما نتابع في الدراما السورية نماذج عن كثيري الكلام والنمامين والثرثارين ولكنهم يقدمون إلينا بصورة سلبية فهم قليلو العمل والإنتاج بل ويعطلون من يريد أن يعمل والانطباع الأول عن هذا الأمر يدفع إلى رفض نتائج هذه الدراسة في الوهلة الأولى.
في أعرافنا السائدة هناك أيضاً رفض لمثل هذه القناعة، والثرثرة كسلوك اجتماعي هي غير محببة وقد تؤدي إلى زلة اللسان وفي هذا ضرر كبير.
لانريد أن نعبر فوق جناحي هذه الدراسة لنصل إلى ثرثرة النساء على الهاتف مثلاً والتي قد تمتد إلى ساعة يتناولن فيها كل المسلسلات الرمضانية والتركية وكل ماقدمته برامج الطبخ التلفزيونية ولا إلى وقفاتهن على الأبواب بعد انتهاء الزيارة على أمل أن يكملن حديثهن لاحقاً ولا إلى ثرثرة تلاميذ المدارس المزعجة فوق مقاعدهم الدراسية والتي تؤثر على أداء المدرسين وعلى استيعاب زملائهم ولا إلى ثرثرة (شلات الشباب والصبايا) حول جمال هذه أو تلك أو على وسامة هذا أو ذاك وما قد ينتج عنه من خلافات صبيانية قد تتحول إلى قطيعة وسنكتفي بما ذهبت إليه الدراسة في إطار العمل حصراً.
-----------------------------------------
النميمة والضحك
النميمة عادة اجتماعية سيئة بالمطلق لكنها في ذات الوقت شبه سائدة وتسلك في الغالب طريق التشفي من شخص لا نستطيع مواجهته فما أن يدير ظهره حتى نجلده بالكلام الذي نحاول أن نلبسه ثوب الخفة حتى لا يمله الآخرون، ومن هنا تحضر الطرافة ويحضر الضحك وقد يساعد هذا الأمر على تجديد نشاط الإنسان ويعيده إلى العمل بهمة أكبر شرط ألا تستمر هذه النميمة وقتاً طويلاً ولا نحاول هنا أن نبرر النميمة أو نشرعنها ولكن نحاول أن نجد بين سوئها أي شيء إيجابي حتى لانبدو متنكرين لجهود من قام بهذه الدراسة وحلل نتائجها.
نعم، النميمة قد تثير الضحك ولكن هل تساءل أحدنا على من يضحك ولماذا ينسى أنه سيكون في (المقلاة) عندما يغيب؟
----------------------------------------
زيادة الإنتاجية
لانعرف بالتحديد على أي قواعد بنى الذين شملتهم هذه الدراسة هذه النتيجة وكيف زاد إنتاجهم بنسبة 50٪ وهم الذين يهدرون بعض الوقت في النميمة والتندر على الآخرين إلا إذا سلمنا بها كفاصل منشط كما أسلفنا وليست إدماناً كما تقول الدراسة.
الدراسة المذكورة تعود لتؤكد (أن القليل من المزاح) يزيد الإنتاج بينما تقول في موضع آخر إن (الإدمان على النميمة) يؤدي إلى نتائج إيجابية وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف بها.
-----------------------------------------
ضغط الدم
إذا ما سلمنا بما توصلت إليه الدراسة في هذا الخصوص فلا يسعنا إلا أن نقول لكم: ثرثروا ونموا على الآخرين فسلامتكم أولاً وأخيراً.
ربما بإمكاننا التسليم بهذه النتيجة لأن النميمة المبنية على مفردات مداعبة تريح الأعصاب وتعطي المجال لعضلة القلب بالانبساط قليلاً وبالتالي فهي بالمجمل مريحة بعض الشيء.
-----------------------------------------
الثرثارون
في واقعنا الاجتماعي هناك بعض المهن ارتبط مزاولوها بصفة (الثرثرة) مثل الحلاقين وسائقي التكسي وبائعي الألبسة النسائية، فالحلاق يعتقد أنه من خلال كثرة الزبائن الذين يرتادون محله قد امتلك كل ثقافات الأمم وينتظر تورط زبون ما بالجلوس على كرسي الحلاقة ليضخ كل ما حفظه من كلام لقناعته أن الزبون لا يستطيع الهرب من كلامه وهو المجبر على انتظار نهاية هذه الورطة وإلا أصبحت حكايته حكاية وقد يطرب الزبون لحكايا الحلاق فالوقت الذي يقضيه عند الحلاق هو وقت ضائع فلا بأس إن خرج به ولو بـ (النميمة) على هذا أو ذاك أو بحكاية من نسج خيال الحلاق لكنها قد تدغدغ حالة شعورية لديه.
أما سائق التكسي فيحاول أن يسرق زبونه من تركيزه كيف لا وهو الذي نقل في سيارته (أكبر شخصيات البلد) وهو الذي وجد في سيارته محفظة مليئة بالمال فأعادها إلى أصحابها دون أن يقبل ولو هدية منهم وهو الذي ضحك على الشرطي هنا وهو الذي أسعف مصاباً بسرعة البرق وهو الذي يعيل أكثر من أسرة وهو الذي يكتوي بأسعار البنزين وبالإشارات الحمراء وبالزحمة في شوارع المدن السورية وهو الذي تحول إلى دليل سياحي مع وافد خليجي والهدف في النهاية دائماً 25 ليرة زيادة على العداد تشفط برضى الزبون.
أما بائع الألبسة النسائية فهو الخبير بكل صيحات الموضة وهو الوحيد الذي يعرف تقدير الملابس والأناقة حق قدرهما وهو الذي يعرف من أين تؤكل كتف سيداتنا، فكل قطعة ترتديها امرأة يقول لها (بتجنن) وعندما يصل إلى مرحلة المفاصلة على السعر يعرف أن الانتصار الأكبر لأي امرأة هو تنزيل السعر الذي يطلبه ولو مئة ليرة فيطلب بالقطعة 500 ليرة زيادة ويبدأ المفاصلة فينزلها 200 ليرة فيرضي غرور المرأة ويكسب الزيادة عن المتوقع.
بالطبع هناك نماذج أخرى تمشي على الدرب ذاته لا مجال للمضي في تعدادها وذكر تفاصيلها وبإمكان كل منكم أن يحكم على من حوله وعلى تأثير (الثرثرة والنميمة) عليه ويقاطع ذلك مع مفردات هذه الدراسة ويضيف عليها مايحب.
شئنا أم أبينا فإن معظمنا (ثرثارون) نهرب في ثرثرتنا أحياناً من حالات إحباط نعيشها إلى قصور وهم نبنيها ونعتقد أننا أجدنا في بنائها، ويزداد إعجابنا بهذه القصور مع كيل المديح من الآخرين لها.