وهل سينتهي هذا الانسحاب بمغامرات عسكرية جديدة لا تختلف في مأساويتها عن تلك التي واجهتها في افغانستان والعراق، وقبلهما في فيتنام ولاوس وفي العديد من الدول الافريقية سابقاً؟.
والمعضلة التي تواجه جهابذة الفكر الاستعماري الأميركي، ان الشعب الأميركي وشعوب العالم الأخرى، لم تعد تنطلي عليها الشعارات المزيفة التي استخدمتها أميركا لفرض سيطرتها على الآخرين، فشعارات الحرية والديمقراطية، أصبحت مساوية للقتل والدمار والظلم وسلب الحقوق الانسانية، لأن ما يحدد السلوك السياسي والعسكري للولايات المتحدة في الساحة الدولية، هدف واحد لاغير، وهو اتاحة المجال لتوسيع وترسيخ هيمنة الأمبراطورية الأميركية في العالم، بمساعدة قوتها العسكرية واستخدام قواعدها الحربية البالغة أكثر من 700 قاعدة موزعة في أكثر مناطق حيوية واستراتيجية، وللحفاظ على هذه الامتيازات، وجدت الادارات الأميركية نفسها مضطرة لشن الحروب القذرة في كل مكان، ولن يثنيها الفشل هنا وهناك، لتعيد السعي لتجهيز ادواتها لشن حروب جديدة، وثمة من يؤكد أنه بعد هزيمتها في افغانستان والعراق، فانها وضعت في قائمة أولويات الاستعداد للهجوم على ايران وكوريا الديمقراطية، وفي سياق هذا الاحتمال، لابد لها من تجريد ايران من حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة،لاسيما جبهات المقاومة لمشاريعها الجهنمية الاستعمارية في الشرق الأوسط، الجبهة السورية، والمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وهذا التوجه الأميركي المرتبط عضوياً بالمصالح الاستراتيجية للكيان الصهيوني والحركة الصهيونية العالمية، وأدواتهما التنفيذية داخل دول المنطقة، أملاً في تحقيق الهدف الأميركي، وفي ضوء الهدف، تحاول أميركا خلق أوضاع متوترة في المنطقة العربية وفي شبه الجزيرة الكورية، وضبط الحركات والدول المناهضة للهدف الأميركي. ولم تنتبه أميركا أو هي مرغمة على تجاهل حقيقة ساطعة، وهي ان حروبها الدائمة تؤدي بالضرورة الى حركة مناهضة لحروبها في كل مكان- وتدرك الادارة الأميركية ان حروبها الفاشلة والعبثية تدفعها رغماً عنها الى الوقوع في أزمات داخلية ودولية خطيرة، تفوت عليها ادعاءاتها، بأنها تريد أن تثبت للعالم وللشعوب، بانها ما زالت الملكة على كرسي عرش العالم، ولو كلفها ذلك استخدام قوتها العسكرية المفرطة ضد الدول الأخرى، بيد ان ما ينغص عليها هذه الأحلام، فقدانها القدرة الاقتصادية ويأس قادتها، من امكانية ترسيخ هذا الحلم الذي يخبو شيئاً فشيئاً مع تعميق أزمتها المالية والاقتصادية التي بدأت من جديد تطل برأسها، لتهديد الكيان الأميركي برمته بالانزلاق نحو هاوية الافلاس الاقتصادي والسياسي ومن ثم العسكري، لتصبح العملاق العجوز المريض الآيل للسقوط إلى مراتب دنيا في الترتيب العالمي للدول القوية، وقد تجد نفسها في زمن قياسي دولة بمستوى دول مأزومة كاليونان والبرتغال أو ايرلندا. وهذا الكلام ليس مجرد تمنيات وانما يعكس الواقع الفعلي لما تعانيه اليوم أميركا من ارهاصات السقوط المدوي.
فواضعو السياسة الأميركية، لم يكترثوا بفعل الطبيعة الملازمة للامبريالية، ان دخول الحرب أسهل بكثير من الخروج منها.
وربما المثل الافغاني والعراقي الأكثر عبرة في ذلك، لقد تورطت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو في مأزق افغانستان واليوم وبعد مرور كل هذه الأعوام، فهي غير قادرة على البقاء وكذلك لاتستطيع المغادرة مباشرة ، وينسحب ذلك على العراق. فهي تعتقد ان المصير الفيتنامي ينتظرها في كلا الدولتين، اللتين شعوبهما لم تعد قادرة على تحمل كابوس الاحتلال الأميركي، وما تركه من آلام ودمار ودماء فيهما. والشعب الأميركي لم يعد يحتمل التكاليف الباهظة لحروب اداراتهم العبثية. فكلفة الحربين في العراق وافغانستان تتراوح بين 3200، وأربعة آلاف مليار دولار تتحملها الخزينة الفيدرالية ودافعو الضرائب و الأميركان، خاصة بعد قرار بوش الصغير باعفاء الشركات الاحتكارية العملاق ولاسيما شركات النفط والسلاح من الضرائب وهذا القرار مازال ساري المفعول في عهد أوباما، ما أرهق الميزانية الأميركية، التي خصصت 900 مليار دولار سنوياً للنفقات العسكرية.
وتراكم ديون داخلية وخارجية بأرقام فلكية وصلت إلى 14،300 ألف مليار دولار، لم تعد قادرة على تسديد فوائدها. صحيح أن أوباما نجح في رفع سقف الدين المسموح به الى 16،300 ألف مليار دولار.
ولكن هذا الاجراء لم يحل المشكلة بل أجّلها لأمد قصير جداً.
ويؤكد العديد من الاقتصاديين الأميركان، انه لولا الحرب لكانت نسبة الدين العام لاجمالي الناتج الداخلي أقل بتسع أو عشر نقاط مما هي عليه اليوم، حيث ارتفعت حوالي مئة في المئة.
وأكد هؤلاء الاقتصاديون، ان الحرب ونتائجها وخصوصاً ارتفاع اسعار النفط، عوامل استنزفت من الولايات المتحدة مبالغ هائلة كان يمكن انفاقها لضمان تنمية مناسبة في أميركا، وقد صرح ضابط كبير في الجيش الأميركي الأميرال مايكل مولن: بأن الدين العام يشكل « أكبر تهديد للأمن القومي». وانعكس ذلك على المجتمع الأميركي، وتشير المعطيات الصادرة عن جامعة بورد الأميركية، ان اعداد الشباب الذين حصلوا على الشهادة الجامعية انخفض بنسبة/12/ مرة جراء التركيز غير المتوازن على صناعة الاسلحة، وزاد من نسبة العطالة والفقر إذ بلغت البطالة وسطياً اليوم نحو 17٪ من القوى العاملة، ويعاني أكثر من عشرين مليون أميركي من الجوع، ومليون ونصف من الأطفال محرومون من الحليب، الى جانب أزمة العقارات وانخفاض الخدمات الصحية الخ. وكتب العالم الأكاديمي الأميركي جيمس بيتراس: ان الولايات المتحدة تنفق عشرة مليارات من الدولارات في الشهر أي 120 مليار دولار في السنة على الحرب في افغانستان، ويقول: إن الأغبياء وحدهم، يمكن أن يصدقوا أن البنتاغون والبيت الأبيض ينفقان عشرة مليارات دولار من أجل ملاحقة حفنة من الإرهابين المختبئين في الجبال الأفغانية، بل هي حرب ضد المقاومة الافغانية التي لم تقم يوما بأي عملية ضد الولايات المتحدة. والحقيقة أن أميركا تستخدم أفغانستان كرأس جسر من أجل دعم «المعارضين» والانفصاليين وتأجيج الخلافات العرقية وتنفيذ سياسة «فرق تسد» ضد ايران والصين وروسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، ليتسنى اقصاء ايران وحتى روسيا عن شواطىء بحر قزوين، المالك لأكبر احتياطي نفطي في المنطقة، وكانت افغانستان بداية لحروب متتالية تعزز مكانة الولايات المتحدة بوصفها دولة عظمى قادرة على فرض ارادتها على أي مكان في العالم. ولكن الدول المستهدفة استطاعت بهذا الشكل أو ذاك من اتخاذ مواقف شبه موحدة لمواجهة غزاة العصر الأميركان وردهم على كيدهم، وباتت هزيمة هذا الوحش مرتهنة بوحدة الدول المهددة مصالحه الاستراتيجية والحيوية في بلادها ومجالاتها الجيوسياسية، وبسقوط الولايات المتحدة في هاوية أزمتها المالية والاقتصادية التي باتت شبه مؤكدة. ومع انحسار الدور الأميركي، سيتنفس العالم التواق للحرية الصعداء.