قوة الجاني وقوة المجني عليه في وقت واحد وذلك حين يدير المقدم على هذا الحدث الجلل قدرته على الفعل إلى تدمير ذاته وهدم كيانه وإعدام وجوده.
والانتحار مشكلة اجتماعية وشخصية في آن مشترك، اجتماعية من حيث انتشار إقبال الشباب بالأخص على الانتحار وتزايد نسبة الأفراد الممتازين (أو المميزين) من المنتحرين، وشخصية من حيث إنه دلالة لاختلال تكامل الشخصية واضطراب صحتها النفسية من جراء مايعانيه الشخص من تناقضات بين حقوقه والتزاماته وبين توقعات الآخرين التي تمثلها في نفسه وأثر كل هذا على إضعاف أناه الجوانية وقدراته الذاتية.
وتتفاقم مشكلة الانتحار أيضاً حين نقرأ أن الأعلام في تاريخ الفكر والفلسفة الحديثة والمعاصرة يدعون إليه ويفضلونه حلاً خلاصياً لمأساة الوجود على الأرض ويكاد فعل قتل الإنسان لنفسه يمثل «ميدان بحث مشترك بين الإنسانيات» جميعاً، فالقيم الإنسانية في المجتمعات المختلفة على مر الزمان تغايرت بين الاحتفال به وتشجيع القيام به وبين تحريمه تحريماً قاطعاً والفلاسفة والأدباء تناولوه بين مؤيد لتنفيذه داع إليه مرحب به، ورافض له ناه عنه ومناد بعدم سلوك هذه الجريرة الشنعاء المحرمة في الشرائع السماوية والقوانين الأرضية.
-2-
هذا بداية أما انعكاساً تنظيرياً وتطبيقياً فيشير الباحثون المختصون إلى أنه منذ نشأة الفلسفة اليونانية حتى زمن الفلسفة المعاصرة والراهنة والفكر مازال يتردد أيضاً بين معارض للفعل الانتحاري شاجب للمقدم عليه وبين مؤيد له، سامح به كطريق من طريق الخلاص وصولاً إلى الراحة من الفاجع الوجودي وتتركز حجة أًصحاب الاتجاه المعارض للانتحار في الاعتقاد بأن الحياة هبة ينبغي الاحتفاظ بها حتى يطلبها واهبها ويكون الانتحار فعلاً معارضاً لهذه الإرادة العليا أو مضاداً للقانون الأخلاقي.
ويزعم بعضهم أن الشخصية الإنسانية بلغت من القداسة حداً لايستوي معه الاعتداء عليها سواء من ذاتها أم من الآخرين ويمثل هذا الاتجاه سقراط وأفلاطون وأرسطو في الفلسفة اليونانية والقديسان أو غسطين وتوما الأكويني من رواد الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط والفيلسوف (كانت) في العصر الحديث، أما أصحاب الاتجاه الثاني فيدعون إلى الانتحار كحل خلاصي لأزمة الوجود ورد بطولي على عبثها وأبرز من يمثل هذا الاتجاه نحو الانتحار فلاسفة الرواقية اليونانية و(شوبنهور) من الفلسفة الحديثة، أما في الفكر المعاصر فيمثل هذا الاتجاه بعض الفلاسفة الوجوديين عامة و «ألبير كامو» خاصة ولم يفت كثير من الأدباء على العموم وكتاب التراجيديات بوجه خاص أن يكتبوا باستفاضة وصفاً لمواقف انتحارية ولسمات الشخصية الانتحارية وفي آثارهم وخصوصاً (سوفوكليس) في «أوديب الملك».
وفي التراجيديات الحديثة يشار خاصة إلى «عطيل» و «هاملت» لشكسبير و«الإخوة كرامازوف» لديوستوفسكي ورواية ألبير كامو «الطاعون» وكذلك روايته «الغريب».
وفي منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وإلى أواخرها وهي الفترة الزمنية التي انتشر فيها الأدب الوجودي في سورية خاصة والوطن العربي عامة راجت ترجمات لكتب المفكرين الوجودين إلى العربية والتهمها مثقفو البرجوازية الصغيرة والمتوسطة في أوطان أمتنا ورأوا فيها تعبيراً عن عالم الضياع والقلق والتمزق والعبثية الذي كان الغرب الأوروبي يغرق في لججه حتى القاع، وانعكس تأثيرها الأدبي على شرائح الشباب المثقف في أطياف من المجتمع العربي المستنير آنذاك.
-3-
منطقياً يقتضي السياق التسلسلي لهذه المقالة إيرادي أمثلة عن حالات انتحارية وردت تفصيلاتها المأساوية في كتب من الفكر الأوروبي مترجمة إلى العربية، فلقد كان «شارك ليتورنو» معروفاً بكتابه «فسلجة الرغبات الحادة» الذي يذكر حالياً بصفته أحد المصادر التي ألهمت «إميل زولا» بعض إبداعاته الروائية وقد نشر «شارل» هذا سنة 1875 كتاباً تعليمياً في «علم الحياة» وأعقب هذين الكتابين أبحاث عديدة أخرى في الفلسفة خاصة.
كان هذا الرجل في الرابعة والأربعين حينما التقى بليزا أول مرة ولها من العمر سبع عشرة سنة وكان يعيش مع زوجته وطفليه الصغيرين في فرنسا حيث يحاضر في الجامعة وهو ممن لهم بعض المعرفة ب أكساندر هرزن وزوجته والدي ليزا.
ووقع الحب الجارف المجنون بين «شارل وليزا» ثم وقف شارل يصد هذا الحب ويفكر بعقله ويطلب من ليزا أن تستبدله بالصداقة، كما وقفت أسرتها «أمها وأختها خاصة» في وجه الصبية الرومانتيكية الطائشة وذات مساء والأطفال يلعبون والآخرون يتحدثون كانت ليزا تكتب رسالة.
وعند العصر خرج الجميع إلى المدينة لكن ليزا بقيت وحدها في البيت ورفضت طلب أمها مشاركتهم النزهة.
حين عادت الأسرة ليلاً لم تظهر ليزا كان بابها مقفلاً ولم يسمع صوت من الداخل فكسروه وإذا بها منطرحة على الفراش وعلى وجهها قطعة من القماش أشربت محلول «الكلور وفورم» كانت ميتة وكانت معها رسالة وداع لأهلها وأصدقائها محزنة طفولية، كما تركت هذه الضحية الرومانسية البريئة وصية مؤلفة من أربع فقرات تتعلق بضرورة التأكد من أنها قد فارقت الحياة وبموكب دفنها وطقوسه وتوزيع حوائجها على أسرتها وتخصيص أمها بدخل وافر من الميراث العائلي.
حياة هذه الفتاة الرومانسية كانت قد بدأت قبل سبعة عشر عاماً في «لوريل هاوس» في انكلترا وها هي الآن تنتهي في فلورنسا وفي هذا المزيج الغريب من الحب واليأس والوحشة والمعاكسة الصبيانية وإصرار المراهقين وبراءة قلوبهم ويكفي أن نقرأ كتاب «الجيل الخائب» لمؤلفه «إدوركار» ومترجمه أحمد حازم يحيى وناشرته «دار العلم للملايين» لنطلع على صفحات مثيرة من حياة المنفين الرومانتكيين الروس في القرن التاسع عشر إلى بلدان أوروبية وما فيها من أحزان وتعاسات وغرائب وانتحارات بالجملة وكذلك كتاب «اللامنتمي» لمؤلفه الانكليزي «كولن ولسن» الصادر مترجماً إلى العربية حوالي ستينيات القرن العشرين وما فيه من ركائز لفلسفة العصر الحديث وعبثية شبابه المحتج على تدرن العالم وسقوط حضارته الآلية المادية ما، حدا بالغاضبين من مثقفيه الثوريين إلى الانتحار بحرق أنفسهم خلاصاً من وجود بشري فقد الروحانية وسيطرت عليه نوازع فلسفة القوة وما تحتويه من نظرة استعلائية استعمارية لدى شعوب في الغرب الأوروبي خاصة تدعي التمدن وتنسى تاريخها الثقافي المشرق في الدفاع عن حرية الأفراد والأمم.
وها نحن نتعرض في إلمامة عاجلة إلى حالتين من حالات الانتحار في المجتمع العربي خلال العصر الحديث بطلاهما «عالم عبقري» و «شاعر مبدع» انتحرا في أوج حياتهما أولهما «إسماعيل أدهم» وثنيهما «عبد الباسط الصوفي» يروى أن العبقري «إسماعيل أدهم» والدكتور والعالم العربي الانتماء الذي استطاع وهو لم يتجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمره أن يكون أستاذاً في جامعة «موسكو» وأستاذاً في جامعة «لايبزغ» بألمانيا وأستاذاً في جامعة «استانبول» في تركيا وعضواً في أكاديمية العلوم الروسية وباحثاً في دوائر العلم والأدب والتاريخ والفلسفة في مجمل العالم الغربي، إضافة إلى أنه استطاع أن يؤلف خلال عمره القصير ثلاثة وعشرين مؤلفاً في اللغات العربية والروسية والانكليزية والفرنسية والألمانية في مختلف الموضوعات العلمية والأدبية والفكرية والتاريخية والجغرافية واستمر يكتب روائعه الإبداعية هذه حتى بلغ الثامنة والعشرين في شهر تموز من عام 1940 حين ألقى بنفسه منتحراً على شواطئ الاسكندرية فوجدت جثته طافية على الماء وعثر في أحد جيوبه على ورقة يقول فيها -على اختلاط معالم الكتابة التي تضمنتها بسبب انحلال الحبر بالماء-: إنه آثر الانتحار على حياة ثقيلة لا تطاق كما عثر في أحد جيوب معطفه خطاب إلى رئيس النيابة يبلغه فيه أنه انتحر لزهده في الحياة وكراهته لها وأنه يوصي بإحراق جثته وتشريح رأسه.
وقد أورد المرحوم الأستاذ سامي الكيالي في كتابه «الراحلون» ثلاثة عوامل صحية ونفسية وسياسية كانت وراء هذا الانتحار.
أما الشاعر عبد الباسط الصوفي فقد ولد في مدينة حمص عام 1931 من أسرة متوسطة الحال مادياً عرفت بالتدين والصلاح وتدرج في مراحل الحياة إلى أن نال الإجازة في اللغة العربية عام 1956 وعين مدرساً في دير الزور ثم حمص حتى شهر آذار 1960 حين أوفدته وزارة التربية في بعثة تعليمية إلى «غينيا» لتدريس العربية هناك فتوفي منتحراً في عاصمتها «كوناكري» يوم 20 تموز 1960 ولم يترك حرفاً واحداً يشي بأسباب انتحاره لكن آلية تنفيذه قد تمت شنقاً.
ويقال إن عبد الباسط حاول أن يلقي بنفسه من الطابق الثالث حيث كان يعالج في المستشفى من الانهيار العصبي الذي ألم به أو من مرض التهاب السحايا فانتبهت إليه إحدى الممرضات وأنقذته وتكررت محاولاته الانتحارية هذه بعدئذ بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن وجد مشنوقاً في غرفته بالمشفى بواسطة «بيجامته» التي يروى أنه عمد إلى ربط «بنطالها» بقميصها مع حوائج من ملابسه الأخرى من بينها حزامه الجلدي وعلق «الربيطة» في السقف وشنق نفسه في أنشوطتها ثم وصلت أرض الوطن جثته المودعة في تابوت رصاصي ودفن في مقبرة باب التركمان في حمص بعد أن مشت المدينة وراء جنازته وبكاه أهلها بالدموع الحرار شاباً في ريعان الشباب وشاعراً مترعاً بالمستقبل خلف ديواناً نشرته دار الآداب اللبنانية عنوانه «أبيات ريفية» عام 1961 وكتاب «آثار عبد الباسط الصوفي الشعرية والنثرية» وهو من طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سورية عقب وفاة الشاعر.
وقد أصدر اتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1983 كتاباً بثلاثمئة صفحة من القطع الكبير عنوانه: «عبد الباسط الصوفي الشاعر الرومانسي: دراسة في حياته وانتحاره وشعره» لصاحب هذه المطالعة التي بين أيدي القراء الآن.
وهكذا ربما يصح لنا القول: لقد أخذت تبزغ في العصر الكوني الحديث ما يمكن تسميته «ثقافة التفكير في الانتحار» بل والإقدام عليه وتنفيذه بين فئة من الأدباء والمثقفين والشعراء والفلاسفة الأوروبيين والعرب احتجاجاً على بؤس العلم وتفاهة الحياة في نظرهم واعتقادهم.
m.alskaf@msn.com