ويتذكرون أيام (الهوب هوب) وكيف كان الواحد منّا يقرأ رواية كاملة في الطريق من حلب أو اللاذقية إلى الشام، وكيف كان أكثرنا يستغلّ ساعةً فاصلة بين محاضرة جامعية وأخرى في مكتبة الجامعة أو في مكتبة الأسد، وفي أسوأ الحالات في تقليب وجهات نظر حقيقية حول قضايا تخصّنا كشباب..
هناك اتهام مباشر للدولة بأنها تهدر طاقات الشباب من خلال دفعهم للانتظار سنوات طويلة بحثاً عن فرصة عمل، وما إن يجدوا هذه الفرصة حتى يكونوا قد تجاوزوا سنوات عمرهم الأكثر خصباً والأكثر قدرة على العطاء والإنتاج (25-35) سنة، وبالتالي يتحول وجودهم لاحقاً في مواقع العمل إلى مجرّد رقم غير قادر على الإنتاج أو غير مهيّأ نفسياً للعطاء وهذا ما يفسّر وجود الروتين لدى الموظفين وعدم قدرتهم على استيعاب المراجعين لأنهم جاؤوا إلى مواقع العمل بعد توتر طويل سيبقى قسم منه ملازماً لهم وهم على رأس عملهم، ومن هنا أيضاً قد يتولّد تعمّد الإساءة للوظيفة في القطاع العام لأنهم قد يعتقدون أنهم خطفوا هذه الوظيفة خطفاً وبالتالي لا يجوز لأحد أن يحاسبهم على مدى فاعليتهم فيها..
هذا الأمر مختلف ولن نقاطعه فيما نحن بصدده ونعني الطاقات المهدورة سلبياً أو تلك التي يتعمدون بإهدارها بأيديهم عن جهل أو عن عدم فهم للبدائل المثمرة.
لا ننكر أننا كنّا نلهو، ولكن لا أعتقد أن فيلماً سينمائياً جاداً وجديداً كان يفوت النسبة الغالبة منّا، أو معرضاً للكتاب دون أن نرصد له ميزانية خاصة، أو لم يخصص معظمنا أرشيفاً لجمع وتخزين المقالات المتميزة (اجتماعية، ثقافية، علمية، رياضية..الخ).
ما تقدّم لم يكن حالةً عامةً بقدر ما كان حالة غالبة، فلماذا تراجعت نسب هذه الحالة، وهل أتى التلفزيون على هذه القناعات ونسفها لدى القسم الأكبر من شبابنا؟
تناولنا مسألة القراءة لدى الشباب أكثر من مرة، وعرّجنا على أسباب تراجع هذه العادة إلى حدودها الدنيا، حتى أنّ مَن أنعم الله عليه واستطاع تجميع مكتبة متواضعة في بيته يتمنى لو ينظر إليها أبناؤه بشيء من الاحترام فينفض الغبار عن كتبها، ويبحث بين الصفحات التي اصفّرت بحكم تقادمها الزمني وبحكم عدم تجديد دمائها بالقراءة، فتحولت إلى شيء من الديكور المملّ في المنزل...
نراقب أبناءنا بشيء من الحزن عليهم، وبشيء من الأسف على هذا الزمن الذي بدأ يسرقنا من ذواتنا بعد أن اكتفينا بما يمدّنا بمنفعة آنية دون التفكير بالعواقب، لذلك إن وجدتَ مَن لا يعرف المتنبي أو أبي فراس الحمداني فلا تستغرب، فالمشكلة ليست في شبابنا بقدر ما هي في تعقيدات حياتية وسلوكيات اجتماعية دهستنا نحن وأبناءنا لدرجةٍ أصبحنا نشتهي فيها أن نعرف هؤلاء الأبناء جيداً أو نحافظ على علاقاتنا التقليدية معهم!
هذه الصورة (السوداوية) من وجهة نظر البعض يكرّسها كلّ شيء في حياتنا، حتى الدراما التلفزيونية الطاغية هذه الأيام حضرت لتأخذ بيدها، ومن يدقق في تفاصيل الأعمال الدرامية السورية والتي تحاول الاقتراب من فئة الشباب تركّز على الروح الانتهازية لدى شبابنا، فهذا يسعى للزواج من ابنة مدير عام ليضمن الوظيفة وذاك يتخلى عن كل قيمه في أول محاولة ضغط على هذه القيم، وكأن هذه الأعمال الدرامية لا تمرّ على رقابة مختصين، بل وإن الإساءة إلى شبابنا في بعض هذه الأعمال الدرامية أصاب العمق الذي توقعناه محصّناً أكثر من غيره ونعني العاطفة والمشاعر التي تمهّد لارتباط وزواج، وبات الأنترنت هو الذي يحرّك هذه المشاعر في بعض الأعمال ويهيّئ ظروف التلاقي وتكوين العلاقات العاطفية كجسور للتعارف وربما للزواج!
--------------------------------------------
حالات
تحاول المراكز الثقافية في مختلف أرجاء القطر الإمساك بآخر خيط يبرر وجودها فتدعو إلى ندوات حوارية وثقافية وأمسيات أدبية ومهرجانات وغير ذلك، وقد تنجح أحياناً بغض النظر عن الطريقة باستقطاب عدد معقول من الرواد، لكن ما إن تمضي نصف ساعة من عمر المحاضرة أو الندوة حتى يبدأ الكثيرون بالتململ والخروج تباعاً من القاعة، فتبدأ الندوة بحوالي ألف شخص وتنتهي بالعشرات!
اعتاد شبابنا على كلّ ما هو سريع في حياتهم، حتى في طعامهم فإن الوجبات السريعة هي خيارهم الأقوى!
يقرؤون العناوين ويكتفون بها عندما يمسكون بجريدة..
إن لم (تظبط) محاولاتهم في (تطبيق فتاة) خلال أيام قليلة ينقلون شباكهم إلى غيرها إذ لا قدرة لديهم على الصبر حتى في عشقهم المراهق!
حتى وهم يتابعون التلفاز لا يصبرون على فاصل إعلاني مدته دقيقتان أو ثلاث فينتقلون إلى قناة أخرى!
لا يصبرون على أغاني أم كلثوم على ما فيها من كلمة راقية ولحن جميل ويدافعون عن ثقافة (ليك الواوا.. بوس الواوا) قولاً وفعلاً..
لا يقتنعون أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة وإن لم يكن لهم كلّ شيء دفعة واحدة فإنهم يحيطون أنفسهم بكلّ بؤس العالم، وإن تعثرت بأحدهم خطوة فإنه يعتبر أنّ كل العالم يحاربه ويقف ضده ولا يريد الخير له!
وعندما يحاول أحدنا استعراض تجاربه أمام أبنائه وما بهذه التجارب من مشقة وتعب واجتهاد في محاولة لترميم معنويات أبنائه يردّ عليه هؤلاء الأبناء بالقول: زمانكم غير زماننا وأنتم غيرنا، ولسنا مستعدين لفناء العمر بالمحاولة والتجريب..
في الحياة العملية
في أبسط صور الحياة العملية التي تتكرر يومياً، فإن أحدنا عندما ينتظر (الميكرو باص) نصف ساعة، ويستغرق مشواره فيه ربع ساعة، وينتظر المصعد ربع ساعة، وينتظر عودة الموظف من غرفة التدخين نصف ساعة، وينتظره ربع ساعة أخرى لينهي مكالمته الهاتفية، أي ما مجموعه ساعتان دون أي طائل هل ستسمح لأحد أن يطالبك بالإيجابية؟
قد تبدو المقاربة غريبة بعض الشيء، وقد يعتبرها البعض (نشازاً) وليست حاضرة بقوة في حياتنا لكن ما عليك إلا أن تدقق في تفاصيل حياتك لتجد انها تقترب في معظم تفاصيلها من هذا المنوال...
هذه التقاطعات هي التي تؤثر على حياة وسلوك الكثيرين من شبابنا والذين لا يجدون معظم الأحيان المحفّز الإيجابي لتسير طاقاتهم في الطريق الصحيح وهذا بدوره ما يبرر لهم ولو جزئياً السلبية التي تظهر على سلوكهم وتفكيرهم بعض الأحيان..
من جهة أخرى تشعر وكأن قسماً كبيراً من شبابنا يريدون أن يشربوا البحر دفعة واحدة فيتعذر عليهم فكّ لغز موجة واحدة منه أي أنهّم يستعجلون قدوم وتحقيق كلّ شيء ومن ثمّ يستعجلون انتهاءه كالموظف الذي يستعجل قدوم أول الشهر كلّ مرة لقبض راتبه فيدفعه ويصرفه في أيام قليلة ويتباكى على رحيله بقية أيام الشهر!
التوتر الذي تحدثنا عن بعض مسبباته البسيطة قد يفعل أكثر من هذا، وربما يحتاج أبناؤنا منّا لوقت أكثر نقاء معهم وأكثر التزاماً بهم، ولا يكفي أن نؤمن لهم البيت والعروس بل علينا أن نشركهم في بناء هذا البيت وتقوية دعائمه بالمعرفة والرشد والنصيحة والاختيار مع مراعاة الفوارق الجوهرية بيننا وبينهم ودون مواجهتهم بهذه السلبيات التي تعيش معهم بشكل مباشر وأننا أكثر وعياً منهم إلا بعد أن نتأكد من قدرتهم على استيعاب وجهات نظرنا فيهم.
هذه الحالات أقرب ما تكون للأمراض الاجتماعية التي نسي زمننا الحالي تشخيصها ومعالجتها بالوقت الذي بالغ فيه بعض شباب اليوم بتهويلها!