تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


في عصر الشراكات .. المتوسطية ومشقة الجوار

دراسا ت
الأربعاء 29/6/2005م
عرض وتحليل: أحمد حمادة

كثيرة هي الكتب التي تناولت العلاقات العربية -الأوروبية بالنقد والتحليل والتمحيص, وبحثت في الكوابح والمعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق تفعيلها وتطويرها, وأسهبت في شرح ميزاتها التي ستنعكس بشكل إيجابي على الشعوب التي تعيش على ضفتي المتوسط,

لكن كتاب (سورية والاتحاد الأوربي-المتوسطية ومشقة الجوار) للباحث صالح الراشد يكاد ينفرد بشكل واضح في عرض هذه المسألة من مختلف جوانبها ويقترب من ضفافها الشائكة, ولا سيما المتعلقة منهاب¯(مشقة الجوار) كما يبدو من عنوان المؤلف, تلك المشقة التي لم تأت من فراغ.‏

شأن أي علاقة تحكم طرفين متجاورين- بل من خلال تطوراتها التاريخية العميقة الجذور, المتحاورة حيناً والمأزومة في أحيان كثيرة, والتي تتناوب بين تناحر وتحاور وتبادل وعطاء , وتجاذب وتنافر وبين فتوحات وحملات من هذا الجانب وإعادتها من قبل ذاك, والكتاب صدر مؤخراً عن دار الصديق للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق ويتوزع عبر 256 صفحة من القطع الكبير على مقدمة وخاتمة وملاحق وثلاثة فصول رئيسية.‏

ولعل قراءة سريعة وعاجلة في الهدف الرئيسي من هذه الدراسة القيمة تشير الى أن الباحث الراشد حاول الإجابة عن سؤال جوهري يحكم العلاقة العربية- الأوروبية وبالتالي السورية -الأوروبية وهو هل ستتمكن سورية (في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة وتطورات الأحداث المتسارعة خلالها) من إقناع الاتحاد الأوروبي بلعب دور سياسي في عملية السلام ينسجم مع حجمه وثقله في تفاعلات النظام السياسي الدولي? ومن ثم ما دوافع كل من الاتحاد الأوربي وسورية في تأسيس شراكة وطيدة بين الجانبين? وما الآثار المحتملة لتوقيع سورية اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ?!‏

وللإجابة عن هذه التساؤلات الهامة يبدأ الباحث بالإشارة الى أن ضفتي المتوسط شهدت عبر التاريخ علاقات متأرجحة, تقوم حيناً على المجابهة وحيناً على الحوار, وقد اختارت دول المتوسط من جديد الحوار من أجل الشراكة, بيد أن هذه المرة امتازت عن سابقاتها بالتعامل مع طرف واحد في شمال المتوسط هو (الاتحاد الأوروبي) تلك المؤسسة التي ولدت مع نهاية القرن العشرين بمتغيراته المتلاحقة, والتي حسمت مسألة أهمية التكتلات الإقليمية والقارية بشكل ملموس.وحتى يقف الباحث على حقيقة الدوافع الأوروبية لبناء مشاركات وطيدة مع الآخرين يشير الى أن القارة العجوز انطلقت بعد توحدها الى بناء حوارات وشراكات مع التكتلات العالمية تحقق مصالح دولها وشعوبها, مع ملاحظة أن المتوسط كان حاجزاً دائماً أمام صناع القرار في بروكسل بسبب معطياته الاقتصادية والجيوبوليتيكية والجيواستراتيجية وغيرها, ولذلك طور الاتحاد الأوروبي سياسته المتوسطة التي أثمرت العديد من الاتفاقات وبدأ حواراً شاملاً مع الدول العربية إبان أزمة الطاقة عام ,1973 وتتالت الحوارات حتى تبنى الاتحاد سياسته الجديدة سنة 1990 التي أكدت عليها قمة لشبونة عام 1992 عبر دعوتها لمؤتمر برشلونة الأوروبي المتوسطي والذي تمخض عنه ما يسمى آنذاك بإعلان برشلونة الشهير ومن ثم انطلاق مسيرة الشراكة الأورو-متوسطية.‏

وفي الخصوصية السورية ونظرتها لهذه العلاقة فإن الباحث يرى أن سورية كانت دائمة التأكيد على البعد الحضاري لعلاقات ضفتي المتوسط وأنه في الوقت الذي أكد الأوروبيون على العنصر الاقتصادي فإن سورية حاولت دفع عنصر السياسة الى الأمام, مع اعتبار أن علاقتها الإيجابية بأوروبا تزداد طرداً كلما ازداد تفهم هذه الأخيرة لعدالة المطالب العربية في الصراع العربي -الإسرائيلي.‏

وفي تفاصيل هذا المعنى يشير الراشد الى أن عنصري الاقتصاد والسياسة هما عماد العلاقة بالإضافة الى عوامل ثقافية واجتماعية وحضارية وتاريخية أخرى, وبالتالي كلما جرت عقلنة السياسة بالاقتصاد ازداد التأكيد على أهمية الشراكة المتوخى إرساء قواعدها مستقبلاً , ولا سيما أن الشراكة السورية الأوروبية باتت شبه جاهزة وقد تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى بانتظار التوقيع النهائي الذي تأخر بفعل الضغوط الأمريكية على بعض الدول الأوروبية وتداعيات القرار 1559 الذي فرضته الولايات المتحدة على المنظمة الدولية, وبتوقيعها ستكون آخر سلسلة الاتفاقيات المتوسطية مع الاتحاد الأوربي عدا عن ليبيا التي لم تنضم الى هذه المسيرة حتى الآن.‏

وبعد أن يفرد الباحث في ثنايا صفحاته مساحة للحديث عن الاتحاد الأوروبي ونشأته ومؤسساته وعن منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي والدورين السياسي والاقتصادي للاتحاد وعن إعلان برشلونة ومسيرة الشراكة الأوروبية- المتوسطية يعود ليغوص في أعماق العلاقة السورية-الأوروبية وآفاقها المستقبلية على ضوء إعلان برشلونة ومقاربتها تحليلاً وتسليط الأضواء على أهميتها على الصعد كافة وخصوصاً أنها لم تعط حقها من البحث والدراسة في الحقول الأكاديمية والعلمية .‏

وحول رؤيته للاعتبارات الموضوعية التي تحكم العلاقات السورية- الأوروبية فإن الراشد يختصرها باعتبارات عديدة أولها أن الاتحاد الأوروبي أصبح يلعب دوراً كبيراً على المستوى الدولي وثانيها أن سورية بأمس الحاجة الى شريك كبير كالاتحاد الأوروبي تستفيد من خبراته, في عملية إعادة الهيكلة والإصلاح الاقتصادي والإداري الذي شرعت فيها منذ سنوات عدة وثالثها تخفيف وطأة الضغوط الأمريكية المتصاعدة ضد سورية بسبب موقفها من الصراع العربي-الإسرائيلي وممانعتها للاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه المنطقة العربية بتجلياتها التدخلية والاستباقية والشرق أوسطية.‏

وتتمثل اشكالية هذه العلاقة من وجهة نظره في كيفية المواءمة بين رغبة سورية في وجود دور أوروبي فاعل في التوصل الى تسوية شاملة وعادلة للصراع العربي-الإسرائيلي وبين مدى نجاح الاتحاد الأوروبي في لعب مثل هذا الدور قياساً بالثقل الأوروبي على المستوى العالمي وذلك انطلاقاً من قناعة الطرفين بأهمية إقامة منطقة آمنة ومستقرة ومزدهرة في حوض المتوسط.‏

وفي عودة الى السؤال الجوهري حول قدرة سورية على اقناع الاتحاد الأوروبي بضرورة قيامه بهذا الدور, وتعاملها مع الاتحاد الأوروبي في ظل المتغيرات الدولية العاصفة: يجيب الباحث بأنه من سوء الحظ أن أوروبا لم تمتلك بعد قراراً سياسياً موحداً يؤهلها لأن تلعب دوراً غير دور المراقب في المنطقة وأن دورها السياسي في الصراع العربي -الإسرائيلي لا يزال يتسم بالمحدودية وبالتالي تبدو المبادرات الأوروبية تجاه هذا الصراع عاجزة عن التأثير في مجريات الأمور, ولذلك فإن الشراكة سيكون لها أكبر الأثر في تصحيح الأمور باتجاهها السليم.‏

باختصار الكتاب غني بالمعلومات والأرقام والجداول الاحصائية عن سورية والاتحاد الأوروبي والمواقع الجغرافية والبنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية, كما أغناه بالقراءات التاريخية لعلاقات الطرفين منذ الامبراطورية الرومانية وحتى يومنا الراهن, ومشبع بتفاصيل مشروع اتفاقية الشراكة السورية-الأوروبية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وعسكرياً وانعكاساتها المحتملة على الواقع السياسي والاقتصادي في سورية وآثارها الإيجابية على هذا الواقع في مختلف تجلياته وآفاقه المستقبلية, فسد بذلك فراغاً في المكتبة العربية نحن بأمس الحاجة إليه لبناء حاضرنا ومستقبلنا بشكل علمي ومنهجي ومدروس .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية