ومن الواضح أنه لايوجد لحظة مناسبة لإعادة تقييم الالتزامات والافتراضات التي تنطوي عليها أفضل من اللحظة الراهنة.
لقد دخل التاريخ حقبة جديدة، وهذا مالم ينتبه إليه الكثير من الأميركيين ، فالقطب الواحد الذي تشكل في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991 تراه اليوم يترنح وينقضي أمره.
فهل تستطيع الولايات المتحدة الأميركية الآن الادعاء بأنها «القوة العظمى الوحيدة» ..؟ ربما هذا الادعاء الان لايستند إلى أسس ثابتة، مع المتغيرات التي طرأت على العالم وظهور قوى إقليمية جديدة على أرض الواقع.
هناك من يقول إن أوباما هو «أقوى رئيس في العالم» ولكن هذا القول يشبه القول للملكة إليزابيث الثانية بأنها ملكة بريطانيا العظمى، إنه قول جميل على سبيل الاحترام، إلا أنه لايعني شيئاً الآن فيما يتعلق بالسلطة الفعلية التي تتمتع بها الملكة.
إننا نشهد تشكل نظام عالمي جديد في اللحظة الراهنة، وبشكل متسارع ، فهل ستكون الولايات المتحدة الأميركية في سياق هذا النظام لاعباً أساسياً كما كانت في المرحلة السابقة..؟
ربما كان هذا القول صحيحاً، ولكن نشاهد بروز لاعبين آخرين مهمين إلى جوارها يأتي في مقدمة هؤلاء اللاعب الأول ألا وهو الصين، ويأتي من ورائها دول أخرى لاتقل أهمية مثل روسيا، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية.
وفي حال كانت أوروبا التي تعاني الآن من الفوضى والتشوش قادرة على تجميع الإرادة والامكانات المادية، ربما تنضم إلى هذه المجموعة من الدول في نهاية المطاف، ولكن هذا يبقى في خانة المجهول.
فهل تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تمنع هذا التحول وتقف في وجهه..؟
بعض الساسة الأميركيين لايزالون يعتقدون ويؤمنون بأن الولايات المتحدة مختلفة عن باقي دول العالم ويعتبرون أنها قادرة على تمييز نفسها وذلك من خلال استمرارها في التفوق، بل يمكن القول إنه كلما واصلت الإدارة الأميركية الإصرار على فكرة التفوق والتميز والبروز من خلال التمادي في إشباع رغباتها في خوض الحروب البعيدة عنها لأغراض مشبوهة كلما أدى ذلك إلى تسريع عملية التحول آنفة الذكر، وربما انتقلت الولايات المتحدة من حالة الأفول النسبي إلى حالة الأفول النهائي.
هناك الكثير أمام الولايات المتحدة لتعلمه، من أجل ضمان أن العالم المتعدد الأقطاب البازغ ليكون عالماً مستقراً ومسالماً وملائماً.إن عالم القطب الواحد هو شكل وعلى مدى قرن من الزمن تعقيدات كثيرة وأدى إلى إشعال نار الحرب العالمية الأولى .التي تلاها الركود والكساد ، وجاءت بعدها الحرب العالمية الثانية في أقل من نصف قرن وكانت اسوأ بكثير من الحرب الأولى ، ويعتبر تلاقي الظروف وتلافي تكرار تلك السلسلة من الكوارث هدفاً ملحاً وشاملاً واستراتيجياً لهذا العصر وإلا ستحل الكوارث العالمية مجدداً .
هل إنفاق مليارات الدولارات على الحرب في أفغانستان سيؤدي إلى التهدئة أو إلى المساعدة على تجنب الكوارث...؟
إذا كان هناك من نية لدى الإدارة الأميركية لتجنب مثل تلك الكوارث فإن عليها القيام بإعادة تقييم لإدارتها للأزمات العالمية ، ويتطلب منها وضع حد للتفاوض على مختلف الأمور التي تهم العالم الجديد، عليها وضع حدود وقيود على الاستخدام المفرط باستعمال القوة وتقليص بؤر التوتر العالمية ، ويجب عليها تأسيس أعراف تتحكم بالمنافسة ، التي ستندلع حتماً بين القوى الكبرى على الموارد الطبيعية المتناقضة على الدوام.
لابد من تقليص التسليح والحد من تجارة الأسلحة على المستوى العالمي والحد من توافر الأسلحة التي تعتبر الوقود لإدامة الحروب والصراعات.
يجب التركيز على المزيد من العمل الدبلوماسي في مناطق التوتر الملتهبة مثل كشمير ، وتايوان والخط الفاصل مابين الكوريتين إضافة إلى القضية المركزية الأهم في العالم وهي القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الصهيوني بناء على قرارات الشرعية الدولية .
فهل تتوافر في الوقت الراهن أدنى الأدلة التي تثبت أن هناك في واشنطن من يمتلك الخيال الإبداعي الذي يمكن أميركا من الاطلاع والقيام بهذه المهمة.
الواضح أن الولايات المتحدة في هذه المجال كما في المجال الاقتصادي والقضايا المالية وفن قيادة الدول تتحول في الظروف الراهنة إلى منطقة شبه ميتة ثقافياً.
لابد للإدارة الأميركية إذا أرادت المشاركة في ولادة هذا النظام العالمي الجديد، من التخلي عن كثير من الالتزامات التي كبلت نفسها بها منذ الحرب العالمية الثانية فهل تريد الإدارة الأميركية فعلاً أن يكون لها دور مستقبلي في صياغة العالم الجديد.
هذا يتطلب منها إعادة تقييم لسياساتها الخارجية التي تثبت يوماً بعد يوم فشلها، ويتطلب إعادة النظر في البيت الداخلي أولاً وترتيبه على أسس تجعل العالم يغير من نظرته تجاه واشنطن .
لابد من خطوات سريعة ومحسوسة تخفف الضغط على الأميركيتين أولاً والحلفاء ثانياً كي تضطلع بدور مستقبلي مهم في بناء العالم الجديد الذي بدأت معالمه تتوضح مع بداية الألفية الثالثة - فهل هي قادرة وجادة فعلاً...؟