ليتحوَّل وبعد سنواتٍ من ظلمِ وظلامِ الترحالِ والمنفى والتشرّد والبحث عن الجدوى, إلى شاعرٍ ببصيرة شعرية, وبقصائد رصيدها حب الوطن والإصرار على العودة.. بل إلى أحد أعمدة الثقافة المعاصرة وكشاعرٍ ورسَّامٍ تضمَّخت مفردات قصائده ومعاني لوحاته بكل ما أراده يقاوم حتى تحرير كل التراب الفلسطيني..
شارك في العمل الفدائي, وعمل مقدماً للبرامج في إذاعة وتلفزيون الكويت, وفي إذاعة وتلفزيون سورية.. وأيضاً في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين بدمشق..
إنه الشاعر الفلسطيني /خالد أبو خالد/ الذي ولد عام /1937/ في قرية /مسيلة الظهر/. القرية التي انطلق منها باتجاه البحث عما يعيده إليها ككل فلسطين, محرَّرة...
لأجل كلِّ هذا ولأنه مازال يصرُّ على «الرحيل باتجاه العودة» وإلى وطنٍ قضيَّته هي قضية العرب بأكملهم. أجرينا معه هذا الحوار:
-من خالد أبو خالد ومامكوِّناته الشعرية قبل أن يكون القصيدة الحجر التي قلت فيها: «أنا حجرٌ ومن لغتي الجميلة.. يبتدع الشعراء زلزالا» ؟..
--خالد أبو خالد, هو اليتيم ابن أحد شهداء قادة فلسطين /أبو خالد/ الذي أسهم مع أربعة من رفاقه في تفجير ثورة فلسطين الكبرى بقيادة الشهيد الشيخ /عز الدين القسَّام/.
لقد أثّرت هذه الرواية في كثيراً, ففلسطين لم تكن منذ أن فتحت عينيَّ على التاريخ سوى قلب الوطن العربي, وكانت شعارات تلك الثورة وحدوية وترى أن مصير فلسطين مرتبط بمصير الوطن.. عندما استشهد أبي كان عمري سنةً واحدة وعندما كان جدي يأخذني لزيارة ضريحهِ كنت أقرأ القرآن الكريم وأردِّد: «يا ظلام السجنِ خيِّم إننا نهوى الظلاما... ليس بعدَ القبر إلا مجدُ فجرٍ يتسامى»..
لقد حوَّر جدي الأبيات من يا ظلام السجن إلى يا ظلام القبر, وذلك لكي يتَّسق مع الوقفةِ على الضريح وكثيراً ما كنت أسمع الرجال والنساء الذين يرونني يقولون: «من خلَّف ما مات»..
كنت وحيد أمي وكانت أختي معنا في الأسرة وهي أكبر مني بعامين ونصف العام تقريباً. عانت أمي في تربيتنا شظف ومشقة العيش الكريم, فبعد أن كفلنا جدي لأمي توفي وهكذا دخلت في معترك حياة قاسية ومريرة ومملوءة بالخيبات، حيث لا رعاية لأسرة الشهيد سوى الرعاية التي يقدمها أهل القرية لنا والذين لا أنسى فضلهم علينا في فتراتِ الزكاة والفطرة والعطاء الذي لا يخضع لمناسبة. رغم ذلك لم تتوان أمي عن العمل وبحملِ الأحجار على رأسها وإلى أن سقطت أسنانها ولم تكن قد بلغت الأربعين من عمرها..
فتحتُ عيني عليها وهي ترتدي الأسود وكنتُ حريصاً أن أذهب إلى العمل لكي أخفِّف العبء عنها.. من هنا غادرت القرية وكنتُ قد أنهيت المرحلة الابتدائية, ولكن ليس قبل أن أحظى بأبٍ ثالث بعد جدي وهو الشاعر العظيم /عبد الرحيم محمود/ صاحب القصيدة المعروفة:
سأحمل روحي على راحتي.. وألقي بها في مهاوي الردى
هذا الشاعر الذي كان قد علمني في الابتدائية في كلية النجاح ب (نابلس) قاتل مع أبي في الثلاثينيات ثم بعد هزيمة الثورة الكبرى غادر مع ثوار آخرين إلى العراق وشارك في ثورة /رشيد عالي الكيالي/ ضد الإنكليز وعاد بعدها إلى فلسطين ليدرس في كلية النجاح وليُسهم في القتال في صفوف جيش الإنقاذ بعد أن خضع لدورة تدريبية في الكلية الحربية السورية ولفترةٍ قصيرة استشهد بعدها في معركة الشجرة عام /1948/ وكان يردِّد أبياته المعروفة.
تلك هي المكونات الشعرية الأولى للشاعر /خالد أبو خالد/ أضيف إليها مُكون شعري مهم هو أنني عدت لقريتي بعد /48/ وشاركت أهلي في مآتمهم وأفراحهم وواكبت الشاعر الشعبي والشاعرة الشعبية التي كانت نجمة المآتم آنذاك إن صحَّ التعبير, ومنهما تعلمت قول الشعر, ومن هنا جاءت قصائدي مضمَّنة أحيانا بمقاطع من الأغاني والأهازيج والتناويح الشعرية الشعبية التي كانت جسري إلى التواصل مع المتلقي في بداياتي وإلى أن تحولت إلى القصيدة الحجر..
يمكن القول إن مكوِّناتي الشعرية تقوم على ركائزٍ ثلاث: التربية على ضريح الشهيد, القيم التي تعلمتها من جدي وأبي,.. القيم التي طرحَتها الأغاني الشعبية والتناويح بإيقاعاتها المختلفة.
-غالبية شعراء فلسطين كتبوا القصيدة الوطن.. المُقاوِمة.. الصرخة.. ومن النادر أن نجد لديهم القصيدة الحبيبة. هل كتبتها, وبرأيكَ من المرأة التي تستحق أن تكون القصيدة الوطن؟..
--لقد تعلَّمنا الشعر لكي نكتب لفلسطين, وقد كانت فلسطين هي الأم والحبيبة وربما كنتُ شخصياً أخجل من كتابة قصيدة للمرأة بصورةٍ مجرَّدة. إنه همٌّ لم يستطع الحضور في تجربتي الشعرية إلا كجزءٍ من نسيج القصيدة لفلسطين والوطن العربي..
لقد كان الشاعران (أبو سلمى) و(يوسف الخطيب) معلمين كبيرين لجيلي من الشعراء فيما يتعلق بالشكل الخاص للمرأة من حيث هي وطن ومن حيث هي امرأة, ولم يكن الفصل بينهما ممكناً لأنه يصبح تعسفياً, فالوطن لا يخيِّبُ أحداً كذلك المرأة عندما تكون جزءاً من تركيبة الوطن, ومن هنا جاءت قصيدتي في نسيجها مركَّبة من الوطن والمرأة.. أماً, أختاً, شقيقة روحاً أو عاشقة ومعشوقة..
الملاحظ أنني أعتبر المرأة وطناً حتى في حالتها المجرَّدة كامرأة ولأن الأمر كذلك فقد كان لها ذلك الحضور في تجربتي..
-يمكن القول إن الأم الفلسطينية أشبهُ بالأنامل التي تضغط على زنادِ بندقية ابنها ليُطلقَ نضاله.. كيف استطاعت والدتكَ أن تضغط على زناد أفكاركَ لتُطلِق: شاهراً سلاسلي أجيء؟..
--أمي هي سيدتي.. كانت نموذجاً للمرأة المكافحة التي لا تُعلن ولا تشكو شقاءها.. الشقاء الذي رأيته وعشت ما فيه من اللاحدود.. أمي التي ومذ كنتُ طفلاً وعيتها في السواد..
ذات ليل وكنتُ طفلاً, طُوِّقت قريتنا بالجنود الإنكليز القُساة والعنصريين. أذكر أنها كانت تصلي فدخل جندي إلى برَّاكيَّتنا يرافقه عدد من زملائه.. لم تقطع صلاتها غير أنني كنت أرتجف حتى أن انتهت من التسليم يميناً ويساراً وكانت أول كلماتها لي: لا تخف.. عندها سألها الجندي بعربيةٍ مكسَّرة: هل يوجد لديكِ سلاحٌ؟.. قالت: نعم, وأشارت إليَّ.. تلك هي المرأة التي ضغطت على زناد واجبي تجاه نفسي وأسرتي ووطني ومن ثمَّ تجاه فكري.
-إذاً حدِّثنا عما فعلته وعن الواجبات التي دفعتكَ والدتك لتحمُّلها والقيام بها ؟..
--إنه واجب تحمُّلي المسؤولية.. لقد علمتني ألا أخاف وهي التي دفعت بي إلى عالمٍ قاسٍ وشرسٍ حيث غادرتها إلى (عمان) وعملتُ في مهنٍ عديدة منها: تعبيد الشوارع, العمل في المطاعم والمقاهي, بيع ألبسة البالة كبائع متجوِّل. أيضا عملت مع نجار وكنت ألتقط بقايا الصحف وأوراق الروزنامة التي كانت تجمعها الريح في زوايا الجدران لأقرأها, وكنت أمرُّ على بائع كتب قديمة أستعير منه بعض الكتب مقابل قروش قليلة. بعدها عدت إلى القرية ثم غادرت مع قوافل الصحراء إلى الكويت..
كنت واحداً من شخصيات رواية / غسان كنفاني/ (رجال في الشمس) ومن شاهد فيلم (المخدوعون) المحقَّق عن رواية/ كنفاني/ يلاحظ فتىٍ صغيراً في الخامسة عشرة من عمره. كان ذلك الفتى هو الترجمة الحرفية لشخصيتي في ذلك الرحيل.
إنه الرحيل الذي بدأته إلى سورية, حيث كان أبي كثير التردُّد إليها لجمع الأموال والأسلحة، وأيضاً لأن قيادة الثورة الفلسطينية كانت فيها آنذاك..
في هذا الرحيل وكنتُ في الرابعة عشرة من عمري, عملت مساعد سائق تراكتور في القامشلي و(تل علو) و(تل كوجك) ليكون الرحيل الذي تلاه إلى الكويت..
بالطبع, لم يكن ذلك الجيل من الراحلين يحلم بالثروة. كان يحلم فقط بالخبز ولم يكن موضوع الحرية قد بدا مطروحاً آنذاك.. فقط الخبز وفلسطين كانا سبب الرحيل. فلسطين التي كان لابدَّ من عودتي إليها وإن شاهراً سلاسلي, فلقد شغلني كثيراًً موضوع الحرية في بلادي..
في الكويت, اجتهدتُ وقرأتُ وثقّفتُ نفسي وعملت في الإذاعة والتلفزيون كرئيس لقسم البرامج الثقافية. أيضاً ساهمت في تأسيس مجلة /الرسالة/ مع عدد من الرفاق كما أسهمت في تأسيس (مسرح الخليج) وكانت لي إسهاماتي في علاقاتي ببعض المثقفين الكويتيِّين فأنشأنا ما يشبه حلقة ثقافية سياسية كانت نتيجتها ترحيلي من ذلك البلد.
لقد خيَّرتني السلطة بين أن تدفع لي تذكرة للعودة إلى بلدي أو أدفع أنا ثمن التذكرة وأختار البلد الذي سأرحل إليه لأختار سورية, وقد اعتبرتُ دائماً أن فلسطين هي سورية الجنوبية..
عندما نقرأ التاريخ المعاصر نعرف كيف كانت سورية حاضنة لثورة الشعب الفلسطيني. سورية التي اعتبرتها وفلسطين كلاً واحداً والتي كانت والدتي دوماً على خُطاهما وإلى أن توفيت في إربد قبل مايزيد على عشرِ سنوات..
-هل تعتقد بأن الشعر الفلسطيني مازال يلعب دوره القديم في النضال والمقاومة, وبرأيك أي شعراء هذا الجيل يستحق أن يرث شعراء القصيدة الرصاصة؟..
--الشعر عموماً يواصل القيام بدوره وأنا هنا أتحدَّث عن واقع الشعر العربي كرافعة من روافع الواقع العربي, وهو يتقدَّم في حالات المدِّ الثوري لكنه يكمن في حالات الجزر. وعندما نتحدث عن الشعر الفلسطيني يجب أن نؤكّد قضية, وهي أن من يكتبه ليس شعراء فلسطين فقط. إنه الشعر الذي يتمحور حول القضية المركزية للأمة, أعني بها فلسطين. والذي يكتبه شعراء عرب كثيرون.
لقد كانت قصيدة فلسطين عربياً وقبل نكسة حزيران /1967/ قصيدة مناسبة, أما بعد حزيران فأصبحت هي نسيج القصيدة العربية الحديثة, وعندما نتحدث عن هذا الإرث نتحدث عن أجيالٍ من الشعر.. جيل يسلِّم العلم لجيل, والقصيدة العربية الحديثة هي قصيدة فلسطين المستمرة بأقلام شعرائها وإلى أن تنجز مهامها على المستويين الفني والسياسي..
-تقول ابنتك /بيسان/: لوالدي بصمته الشعرية في وجودي الذي ابتدأ بتسميتي باسمِ مدينةٍ طالما حلم بزيارتها... أما زلت تحلم بزيارة مدينة بيسان, وهل تؤمن بأن أجمل الأحلام تلك التي لا تتحقَّق؟..
--لقد زرتُ مدينة بيسان لكن في إطار عملية عسكرية قامت بها دوريَّتنا واستشهد فيها أحد رفاقنا.. رغم ذلك مازالت محور حلمٍ كما هو الحال بالنسبة لباقي أنحاء فلسطين..
أما عن بصمتي فهي ليست في قصيدة بيسان, بمقدار ما هي في شخصيتها فهي صديقتي التي أحاورها دوماً وبلا حدود.. من هنا أصبحت ابنتي تتمثل منظومة القيم الوطنية والثورية التي أتمثلها والتي ورثتُها بالتالي عن أجيالٍ سبقت, فهي ابنة عصرها وجيلها كمحصلة في قضية تواصل الأجيال.
أما عما إذا كانت أجمل الأحلام تلك التي لا تتحقَّق, فلا أؤمن بذلك فأنا أؤمن بأن أجمل الأحلام هي التي تتحقَّق, وأنا أرى فلسطين محرَّرة كولاية من ولايات الوطن العربي الكبير ولم أحلم قط, ولا في لحظة تائهة بما يسمَّى دولة فلسطين..
تلك كوميديا سوداء أنتجت ما يجري على أرض الواقع الآن في فلسطين حيث يجب أن نعترف أن فلسطين كلها قد احتلت على مرحلتين (1948) و(1967). وهذا هو المنطلق والثابت الذي يجب أن نتسلَّح به لكي نحرِّر كامل تراب فلسطين..
-البوح جرأة والصمت جرأة والشاعر /خالد أبو خالد/ يمتلك من جرأة الصمت ما يعادل امتلاكه لجرأة البوح. كيف استطعت الجمع بين متناقضين في زمنٍ يحتاج لأكثر من صرخة؟..
--ثمَّة بوحٍ ولازمته صمت عن البوح وثمة صمت لازمته بوحٌ كامل. هذه العلاقة الجدلية بين الصمت والبوح تفرضها ضرورات الحوار دائماً. إذ ثمة ما هو مستعجل والعلاقة بينهما تبادلية غالباً, وهي مستمرة لا بالنسبة لي فقط ولكن بالنسبة للكثيرين..
-عاصرتَ شعراء فلسطينيين وعرباً كثيرين, من منهم أثَّر فيك ومن أثَّرتَ فيه؟..
--لقد أثَّروا جميعاً فيّ باعتبارهم حالة شعرية متطورة, ولكن أكثر من أثَّر بي, الشاعر (السيَّاب) الذي اقتحم عروض الشعر وأضاف إليه, فهو من هذه الناحية اقتحمني بجرأته وأثَّر بي وليس من حيث الصياغة الشعرية, فالشاعر موقف وأداء وخصائص الشعراء تختلف من شاعرٍ إلى آخرٍ ومن مرحلة إلى أخرى..
-في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها غالبية دول الوطن العربي, لاحظنا أن الأدباء والشعراء والمثقفين, تحوَّلوا إلى أنصاف وأرباع وأشباه ناطقين بما يحتاجه الوطن, ألا تعتقد أن هذا يرسِّخ للمزيد من ضياع هوية الثقافة العربية؟..
--المثقَّف الحقيقي هو الذي لا يضيِّع بوصلته ولا يغرق في التفاصيل.. عندما يكون الوطن مستهدفاً علينا الاصطفاف تحت سقفه لكي نقاتل, وكلٌّ يقاتل بأدواته..
الوطن مستهدف بتجزئة التجزئة وهو ما كتبتُ حوله وواصلتُ الكتابة ما يزيد على أربعين عاماً, وكنت أحس أن ما أقوله يسقط في الفراغ ولكنني الآن أتأكَّد أكثر أنه المشروع الإمبريالي الصهيوني المطروح علينا, فهل نقبل بهذا المشروع أم نقاوم.؟.. لا خيار ثالثاً بين القبول والمقاومة, فالقبول يعني الاستسلام للعدو والمقاومة تعني حماية الوطن..
-سورية بخير.. هكذا يقول جميع الشرفاء فيها, برأيك ما السبب, هل هو قوتها أم وعي شعبها أم مواقفها العادلة والشجاعة؟..
--أعتقد أنها بخير, وستكون بخير, والضربة التي لا تقتلنا تقوِّينا وليس وارداً على الإطلاق أن تموت سورية. الوارد فقط أن تحيا وأن تُسهم في إبعاد هذه الشرذمة عن الوطن العربي, وبقوَّتها ووعي شعبها ومواقفها.. سورية ليست ظاهرة عابرة, إنها جزء من حضارة العالم..
-كلمة أخيرة تقولها لسورية, لأبنائها ولكلِّ من جهل بأن الوطن هو من يجعلنا على قيد الكرامة؟..
--أود القول: سورية ستنتصر لأن التصميم على تحقيق الانتصار يعني توفير أدواته, وبرأيي أن المرحلة العابرة والطارئة لن تعوِّق هذا المشروع الكبير..
***
من أعماله:
- الرحيل باتجاه العودة. القاهرة /1970/.
- قصائد منقوشة على مسلة الأشرفية. دمشق /1971/.
- وسام على صدر الميليشيا. بيروت /1971/.
- تغريبة خالد أبو خالد. بيروت /1972/.
- الجدل في منتصف الليل. دمشق /1973/.
- أغنية حب عربية إلى هانوي. بغداد /1973/.
- شاهراً سلاسلي أجيء. بيروت /1974/.
- بيسان في الرماد. بيروت /1978/.
- فرس لكنعان الفتى. /1995/.