تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


هكذا استقبلتُ الكهرباء

رسم بالكلمات
الأثنين 5-9-2011
رمضان إبراهيم

في تلك البيوت الطينية القديمة التي كان الفقر يتسيدها, وحيث البساطة والطيبة تنام طويلاً بين تلك الجذوع التي تحمل السقف الترابي, كانت الفئران تلهو بينها وتصنع بيوتاً لها, تنتظرنا حتى ننام جميعاً,

فتتسلل عبر الجدران في رحلة البحث الليلية عن بقايا الخبز أو بعض الأطعمة المتبقية في أواني الطبخ المتواضعة !‏

كنا نستيقظ صباحاً لنجد /السراج/ يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن استهلك كامل الوقود, وملأ المنزل بالدخان والعتمة. نتجمع خلف الباب الخشبي, نغسل وجوهنا البريئة ونطرد الشحار من أنوفنا ومن مجاري التنفس, ونفتح الشباك الهرم علّ الهواء يدخل لزيارتنا ليحمل معه ما تبقى من الهباب والضباب الأسود!‏

هكذا استمرت حياتي إلى أن دخلت الحضارة إلى قريتي واستقدم جارنا إلى حانوته الصغير ما سميت وقتها /النواسة رقم4 / والتي أصبحت الآن تقف بشموخ على رفوف بعض المطاعم كشاهد على معاناة من سبقنا تماماً كما يقف /السراج / في منزلنا القديم يذكرنا برائحة الشحار والضباب الأسود.‏

كان يومها عيد الفطر وذهبت والدتي كالعادة إلى المدينة لزيارة أهلها.. بعد عدة أيام عادت إلينا حاملة معها /اللوكس/! اصطففنا جميعاً حول الوافد الجديد وكأنه آتٍ من قطب آخر. بدأنا نتفحصه وسط صياح والدي الذي وقف مزهواً وسعيداً, فيما قالت والدتي له:‏

-يكفي أن يفاخر أخوك مجد بأنه سبقنا إلى ذلك.. منذ اليوم سوف نسهر على ضوئه وربما قمنا بزيارة إلى بعض البيوت في القرية ليلاً كما يفعل أخوك في سهراته في الحارة الشرقية.‏

لكن، عليك الآن أن تستدعيه لنتعلم منه كيفية إشعال اللوكس.‏

على الفور استدعي عمي أبو محسن إلى منزلنا, أمسك /اللوكس/ وأخذ يتفحصه من جميع الجهات وهو يهز رأسه بسخرية واضحة. نظر إلى أمي شذراً وقال:‏

-كم أنتم بسطاء! يا للخيبة، لقد غشّكم البائع، هذا اللوكس ليس من النوع الممتاز كذاك الذي اشتريته من العاصمة.. اللوكس الذي اشتريته أنا من العاصمة من نوع « أيضا». ثمّ ، لماذا لم تطلبوا مني أن أشتري واحداً لكم!؟‏

طلب من والدي إحضار بعض الكحول وقميصٍ من أجل / اللوكس /, على الفور نهض والدي وأحضر له قميصاً بالياً، كنت أرتديه أوقات اللعب, وزجاجة العرق البلدي التي جلبها له أبو عدنان كأجر على قيامه بإصلاح المحراث الخشبي له, فيما كانت والدتي تكزّ على أسنانها وتتمتم بكلماتٍ مبهمةٍ كان عمي على ما يبدو يلتقط شيئاً من رائحتها.‏

بدأ عمي يضحك ساخراً من فعلة والدي, ثم نادى ولده منذر طالباً منه إحضار قميصٍ /للوكس/ وبعض الكحول. بعد أن أحضر منذر ما طلبه عمي ثبّت القميص في المكان المخصص له ثم بحركة من إصبعه استطاعت والدتي أن تلحظها جيداً، ضرب القميص فتناثر رماداً. قال عمي:‏

-ألم أقل لكم إن البائع قد غشّكم! هكذا أنتِ.. تعتقدين أنك أذكى من الجميع، كم كان أخي مغفلاً عندما تزوجكِ!.‏

اقتربت والدتي من عمي وكنا نظنّ أنها ستضربه بزجاجة الكاز التي كانت تحملها, لكن والدي وقف بينها وبين عمي. عندها قالت له:‏

-الأيدي التي تبحث عن الشر لا بدّ من قطعها. تظن أنك أذكى من الجميع؟!. وتسخر ممن يجاريك في الحضارة.. هل تظن نفسك حكيماً؟! لقد رأيتُ إصبعك وهي تخترقه. يجب أن تتقبل وجوده في القرية، كفاك غروراً .‏

عاد عمي وربط قميصاً آخر أحضره ولده ثانية, ولم تمض إلا ثوان ٍ قليلة حتى تسلل الضوء إلى زوايا البيت الطيني. بدأنا نصفق ونتبادل القبلات فيما بدا عمي وكأنه «كليب» كما أخبرتنا به جدتي في قصصها اللطيفة. نظر شذراً إلى والدتي ثم غادر وهو لا يصدق أن في قريتنا لوكساً آخر غير الذي في بيته.‏

لم يدم استخدامنا لهذا الوافد الجديد إلا حوالي الأربع سنوات, بعدها شمخت في القرية الأخشاب البنية اللون وشدّت الأسلاك الكهربائية عليها وأصبحنا جميعا بانتظار ما دُعي /الكهرباء/!‏

الكهرباء التي كادت تسلبني حياتي وتحول الفرحة بقدومها إلى حزن ٍ دائم! كنت الولد الأصغر في البيت وبدأ التصفيق والصياح في القرية البريئة واشتعلت المصابيح في منازل القرية ومن ضمنها منزل عمي المجاور وبدأت زوجة عمي وأولاده يرقصون ويصفقون ويتبادلون القبل.‏

كادت والدتي أن تصاب بالجنون فخرجت إلى أرض الدار وخاطبت والدي بغضب ٍ:‏

- يبدو أن الله قد حكم علينا بأن يسبقنا أخوك إلى الحضارة بشكل دائمٍ! ها هي زوجته تزغرد وتنظر إلينا ونحن نلعق خيبتنا, هيا استدع أخاك علّه يفهم بالكهرباء كما يفهم بإضاءة اللوكس, إنك لاتفهم إلا بالفلاحة والزراعة وصناعة المحراث الخشبي. نهض والدي ونادى عمي الذي يعيش لحظاته الرائعة قائلا ً:‏

-لم تصل إلينا بعد، ربما تحتاج إلى قميص ٍأيضاً! ردّ عمي وهو يشعل المصباح الكهربائي أمام منزله ويطفئه: تأكدوا إن كانت الكهرباء قد وصلت إلى الساعة.‏

هنا.. ضرب والدي كفاً بكفٍّ وقال: وما علاقة الساعة بالكهرباء؟! تعلم أنني لا أحمل ساعة ولا يوجد في المنزل من يحملها, ووحده الديك يشكل لنا المنبه في تفاصيل أيامنا.. ووفق توقيت الديك نستيقظ للقيام بأعمالنا المعتادة.‏

تمتم عمي بكلماتٍ لم نتبيّن حقيقتها ثم أرسل ولده منذر كي يدلنا على ساعة الكهرباء.‏

ما أن غادر المذكور دارنا حتى أحضرتُ سلما ً كانت الأمطار قد بللته. أسندته إلى الجدار وصعدتُ عليه. ووضعت يدي في ذلك المكان.‏

لم أحسّ بنفسي إلا وأنا أتخبّط وأرتجف.. صرختْ أختي: أبي.. أبي.. لقد سقط أخي عن السلّم! خرج والدي مذعوراً فوجدني أرتجف، قال: ما بك ؟!. ماذا حدث لك؟!‏

قلت له بخوفي الطفولي:‏

-لقد وضعت يدي في الساعة ثم نهضت وأنا لا أزال أرتجف وصرخت ُ فرحاً: لقد وصلت الكهرباء.. أقسم لقد وصلت.‏

الآن.. أتذكّر تلك الصفعات التي انهالت عليّ من والدي كلّما قرع جابي الكهرباء باب منزلي حاملاً معه فاتورة تلتهم ربع الراتب تقريباً!!‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية