تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المخطط المترنّح والوضع المستجد

شؤون سياسية
الاربعاء20-8-2014
عبد الرحمن غنيم

لا نظنُّ أنّ الأمريكيين في سياساتهم التي طبّقوها ضدّ بلادنا خلال السنوات الأخيرة يخبطون خبط عشواء، أو أنهم بهذه السياسات يلحقون الأذى بمصالحهم، ويجلبون على أنفسهم البلاء. فممّا لا شك فيه أنهم ينفذون مخططا درسوه وشاركهم اليهود الصهاينة في دراسته، وهيّؤوا لتنفيذه على مدى زمن ليس بالقصير.

مَن يضعُ مثل هذه المخططات، ويهيّئ لها الأدوات، يفترض أنه يضعُ في حسبانه كلّ الاحتمالات باستثناء تلك التي قد تبدعها الشعوب المستهدفة في بعض الحالات، فيفاجأ بها دون أن يكون قد حسب حسابها، ويجد نفسه مع أدواته التنفيذية عاجزين عن مواجهة التطوّر المباغت المستجدّ. وعندئذ، فإن الارتباك الذي يشعر به يتجاوز كلّ حدّ.‏

تقرّ هيلاري كلينتون في كتابها الصادر مؤخرا، أن المخطط الأمريكيّ في المنطقة كان قد وصل في نظر الإدارة الأمريكية إلى مرحلة متقدّمة من النجاح، وإن لم يكن قد حقق بعد هدف الإجهاز على سورية التي استعصت على المتآمرين بعد، حين بوغت أصحابُ المخطط بنزول ملايين المصريين إلى الشوارع يوم 30 حزيران / يونيو 2013 قبل إعلان الخطوة الأهم في إعلان نجاح المخطط بأسابيع قليلة، وكأنّ المواطنين المصريين كانوا على موعد مع القدر، أو كأنّ إرادة الله شاءت أن تحول بين الأمريكيين والصهاينة وبين تحقيق ما رسموه للمنطقة.‏

وإذا كان هذا الحراك الشعبيّ المصري الواسع ينمُّ عن استشعار المواطنين المصريين للخطر، فإن مساندة الجيش المصري لهذا الحراك لم تُبْنَ يقينا على العاطفة والانحياز إلى الشعب فقط، ولكن عن معرفة لحقيقة الخطط المدبّرة، وخاصة ما كشف قبل هذا الحراك عن محاولة لزجّ الجيشين الثاني والثالث «في مصر» بمواجهة الجيش الأول «في سورية» لتكون تلك هي الخطوة الأخيرة، أو ما قبل الأخيرة، في تنفيذ المخطط.‏

منّ المؤكد أن الأمريكيين الذين أذهلتهم الصدمة المصرية الخارقة للعادة، حاولوا أولا استيعاب الصدمة، وحاولوا ثانيا إيجاد البدائل. ولا شكّ أن ظهورَ داعش في المشهد السوري والعراقي بعد سنة بالضبط من الحراك الشعبي المصري ونجاحه أو بمعنى آخر من الصدمة التي أعاقت المخطط يمثل تدبيرا أمريكيا بديلا احتاج إعداده لمثل هذا الزمن، ومهما حاولت واشنطن أن تدّعي خلاف ذلك، فإنها كاذبة يقينا في ادّعائها. ولا شكّ أن هذا التدبير تمّ بشكل أساسي بالتنسيق بين واشنطن وحكام السعودية، وإن ساهمت أطراف أخرى في العملية. ولم تكن تلك هي المهمة الوحيدة التي طلبها الأمريكي من آل سعود بمواجهة الإحباط المصري للمخطط الأمريكي، وإنما طلب من السعودية أن تعمل على احتواء الوضع الجديد في مصر حتى لا يدير ظهره للعلاقات مع الولايات المتحدة من خلال التوجه شرقا، والانفتاح على من تعتبرهم خصومها في موسكو وطهران ودمشق، من خلال المسارعة إلى تقديم الدعم المالي الخليجي. وهو على كل حال تصرّف كان من مصلحة آل سعود تبنّيه سواء برضى أو بتوجيه أمريكي أم دونهما، في ضوء التناقض الذي برز خلال تنفيذ المؤامرة في المنطقة بين طموح الزعيم التركي أردوغان ومن ورائه قطر وجماعة الإخوان وطموح السعودية، حيث لا يوجد لإمكانية التوفيق بين الطموحين مكان. وهكذا، فإن آل سعود تظاهروا بمساندة مصر في مكافحة الإرهاب بما في ذلك إرهاب جماعة الإخوان المسلمين التي أدرجوها على قائمة الإرهاب ضدّهم بعد أن كانت تستظل بهم منذ تأسيسها وحتى الآن، ولكنهم بالمقابل توسّعوا في تجنيد الإرهابيين ضمن تنظيمات متعددة متنوعة لاستهداف سورية والعراق ولبنان وربما أيضا الأردن.‏

إن الانقسام في المنطقة بين الأطراف الضالعة في المؤامرة والمساندة للإرهاب، بحيث يتشكل محور تقوده تركيا وقطر وقاعدته جماعة الإخوان، ومحور تقوده السعودية وأداته داعش وأخواتها التكفيريات الوهابيات، لا يتنافى مع أهداف المخطط الأميركي الصهيوني، بل ينسجم مع هذه الأهداف، حيث يضمن ألا تتحد المنطقة على هدف واحد، وأن تتمزق بين القوى العابثة على الأرض في تفاعلها مع اللاعبين، وهو ما يهيّئ الظروف الملائمة لتحقيق الأطماع الصهيونية على حساب الجميع.‏

بوسعنا الافتراض أن التغيير الذي حدث في مصر وجاءَ مباغتا لأصحاب المخطط التآمري على المنطقة، أوجد لدى الصهاينة بشكل خاص رغبة في اختبار مدى التغيير الذي يمكن أن يكون قد طرأ على السياسة المصرية بعد انتخاب السيسي رئيسا لمصر. ولعل العدوان الصهيوني على غزة «تموز 2014» في أعقاب انتخاب السيسي يذكرنا بالعدوان على غزة عام 2012 عقب انتخاب مرسي، حيث من الممكن أن يكون أحد الأهداف الأساسية للعدوان اختبار موقف القاهرة والكيفية التي تتصرف بها إزاء العدوان. وحين نضع في الاعتبار تدخل الوزير الأمريكي جون كيري داعيا لجعل التفاوض الذي تديره القاهرة بعد حوالي شهر من بدء العدوان يعالج حلّ الدولتين، فكأننا أمام محاولة أمريكية لجعل العدوان فرصة لمحاولة أمريكية في نقل المفاوضات إلى أفق آخر ضمن منطق قد يؤثر على وحدة الفلسطينيين الذين اجتمعوا لأول مرة في وفد موحّد أو على موقف المسؤولين المصريين الذين يراد لهم أن يكونوا طرفا مباشرا في مفاوضات يجري توسيع نطاق اهتمامها إلى حد أقصى مع العلم بأنه لم تمرّ سوى فترة قصيرة للغاية على فشل كيري المدوّي في إنجاح مثل هذه المفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة. ولعل ما يسعى إليه كيري هو إحياء ذلك الترتيب القائم على تبادل الأراضي وإعادة رسم الخرائط، والذي قيل إن مرسي كان قد وافق عليه. فهل يريد الأمريكيون والصهاينة اختبار إمكانية أن يوافق النظام الجديد في مصر على مثل هذا الترتيب من خلال طرحهم لهذه الدعوة ؟.‏

يقينا أن القيادة المصرية الجديدة المتمرّدة على هكذا ترتيبات، أو على محاولة زج الجيشين الثاني والثالث في مواجهة الجيش الأول، لها موقفها المسبق والمعلن من هكذا حلول ترد في سياق المؤامرة على المنطقة. ولعلها في هذه المرّة تجد إلى جانبها إجماعا فلسطينيا تحقق لأول مرة بتشكيل وفد موحد لمنظمة التحرير يضم ممثلين عن جميع الفصائل. والأهم أن التجربة القتالية الفعلية التي خاضها المقاومون في قطاع غزة هذه المرّة، لا تمثل فقط انتصارا نسبيا كبيرا للمقاومة في مواجهة العدوان يحاكي انتصار المقاومة اللبنانية عام 2006، ولكنها تشكل درسا مؤدّاه أن العدو الذي يسعى إلى السيطرة على الأرض العربية الممتدة بين الفرات والنيل أعجز من أن يسيطر على قطاع غزة الصغير والمحاصر، أو أن يحول دون انطلاق صواريخ المقاومة منه لتصيب أيّ مكان في الكيان الصهيوني. فمثل هذا الحدث الكبير يعني أن الأدوار التي تقوم بها داعش وشريكاتها التكفيريات قد تخلق إرباكا وفوضى في المنطقة لبعض الوقت، ولكنها لا تشكل بديلا لتوسع إسرائيلي بات يبدو مستحيلا.‏

إن هذه المعطيات الجديدة التي يتراكم فيها الصمود الغزّي المقاوم مع الصمود المقاوم في لبنان وسورية والعراق، والتي اتضح فيها أيضا بما لا يدع مجالا للشك أن مَن أسهم في تسليح المقاومة أحياها، أما من ساهم في تمويل الإعمار ممّن يوالون واشنطن، فإنهم لم يحموا ولو بناء واحدا من الاستهداف الصهيوني الأعمى الذي دمّر ما أسهموا في تعميره وأكثر. والمقاومة اليوم لا تبدي صلابتها في التفاوض على خلفية ما نجا من الأبنية وإنما على خلفية ما تحمل من سلاح تستطيع بواسطته مواصلة المقاومة. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن غزة ليست بحاجة إلى مساهمة الكل في إعادة تعمير ما دمّره العدو، فهذا واجب وفرض على الجميع بغض النظر عن الحسابات السياسية المتعلقة بالرضى على فصيل مقاوم أو عدم الرضى، وبغض النظر عن المواقف الغريبة والمستهجنة التي اتبعها بعض من يدّعون أنهم أشقاء حين راحوا يبررون للعدو عدوانه ويحاولون تحويل المقاومة المسؤولية عن وقوعه، مطبقين المبدأ إياه: إخنعوا واخضعوا أمام اليهود لتسلموا !! فإن لم تفعلوا ذلك فلا تلومُنّ إلا أنفسكم !!. وهذا منطق سمعناه مرارا في الماضي، وكأنه لازمة يعتاش عليها بعض الحاكمين في وطن العرب بدلا من أن يسهموا في مواجهة بغي العدو وطغيانه وتحمّل مسؤوليتهم في مقاومته.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية