مع مرور السنوات تحولت حلاوة العيش إلى مرارة غربة ، و مع الاعتياد خفت وهج الانبهار بناطحات السحاب ، و تكشفت الحقيقة و زيف ألوانهم الصناعية و موادهم الملونة ، و تيقظ بألا يدس له السم في العسل، و كان عصياً عن اختراقه أخلاقيا أو قيمياً أو دينياً أو وطنياً ،و تمتع بمناعة تم تحصينه بها أسريا و مدرسياً و مجتمعياً بين أصدقاء الحي و رفاق المدرسة .
ألحت عليه فكرة الهجرة إلى الوطن عندما بدأ وعي طفلتيه بالتشكل ، و أخذت ملامح الحياة الغربية ترتسم بتصرفاتهما ، و باءت بالفشل محاولاته بأن تكون لغة الضاد أول مناغاتهما ،علها تكون صلة الوصل بينهما و بين أبناء عروبتهما ، و نافذة للإطلالة على ثقافتنا وتراثنا .
باح لي بهواجس تؤرق مضجعه ، بأن يجرفهما تيار ادعاءات الغرب بالتحرر الأقرب للانحلال و الابتعاد عن القيم ، أو أن ُتغرس في عقليهما الغضين مبادئ و أخلاق بعيدة عن ملامحنا العربية ، و يخشى يوماً تأتيه إحدى طفلتيه من المدرسة لتقف خصما ضده و تحتمي وراء منظمات و هيئات لتحاكمه بذريعة انتهاك حقوق الطفل ، بعد أن فسروا بعض بنودها تمرداً على الآباء و تقليصاً لدورهم في التربية ، و الانضواء تحت شعارات بنكهة غربية تدعو للاستقلالية و الخروج من عباءة العائلة ، في دعوة للتفكك الأسري و البرود العاطفي تجاه الأرحام .
تلك مخاوف كثيراً ما تراود من رمتهم الأقدار في بلاد الاغتراب ، و قد حالت بينهم و بين العودة ارتباطات و مصالح ، و كان العيش بالوطن مشروعهم المؤجل ، وعندما استيقظوا من دوامة أحلامهم ، تلقوا الصدمة بأن وجدوا أمامهم أبناء يجهلونهم هوية ولساناً و انتماءً، فلا هم شرقيون و لا هم غربيون !!