اللغة! الآلة الكلامية والكتابية، وسيلة محبّة وقربى، ولقاء...وتقارب.
الأمة العربية التي تعد المليارات من البشر، وباقة من البلدان، تنطق باللغة العربيّة وتستخدمها، محكية، كتابة وإذاعة..
إنها وسيلة تعارف وتفاهم بين الشعوب..أمّا حين تستخدم للسياسة، تنقلب أحياناً إلى وسيلة تباعد وخلافات، حتى بين الأقارب والجيران الذين يتسلّحون بثقافة مشتركة.
اللجوء إلى الثقافة والتعرّف على ثقافات الآخرين يغدو الحل الأمثل...وهو وسيلة ناجحة للتقارب والمحبّة والمودّة...والأهم الأهم معرفة الآخر..وفهمه فهماً صحيحاُ لا شائبة فيه.
أمّا تنوّع المصالح والأهداف، لا يفرّق طالما في خلفيّته ثقافة، حتى لو كانت متنوعة، ومن شأنه أن يدفع الإنسان للتعرف على الآخر عن كثب، وفهمه، ومعرفة كيفية التعامل معه.
هل ندّعي أننا مثقّفون؟ وهل نحن مثقّفون بالفعل؟ الثقافة تبزغ مع الطفل الوليد، وتتفتّح في سريره...وتنمو مع نموّه..إنها واسعة سعة الأفق. كم يدّعي المرء أنه «مثقّف»...وهل للثقافة حدود؟ «مثقّف»؟ يكتفي ويقتنع بما اكتسب؟ كلٌّ منا «يتثقّف» والثقافة بحرٌ نغوص في أعماقه ونستخرج منه الدّرر والأحجار الكريمة..بينما يُخرج بعضنا البحص والأتربة...فالبحر كالثقافة واسع الأرجاء...أفق الثقافة غنيّ وبعيد المنال قد لا نتمكن من التعمّق به ونكتفي بملامسته..
من أين تأتي الثقافة؟ من التعرّف بالآخر، في محيطنا ومحيطات سوانا، من القراءة، من الاستماع والإصغاء إلى الآخر، من الإذاعات ومن الشاشات المرئية. ألا نشعر أحياناً أن بعضها يبعدنا عن الثقافة الصادقة والأمينة...يشوه الحقيقة، ويلقي بها في الهاوية؟ لماذا أتطرق إلى موضوع حرج كهذا؟ ذلك أنه في مجتمعنا هذا يلقي بعضنا أحكاماً، جائرة حيناً، ومبالغاً بها أحياناً أخرى.
هل نحن مثقفون؟ أحبّ أن أؤكد على أننا «نتثقّف» يوماً تلو اليوم، ومهما بلغنا من المعرفة، تتشكّل لدينا قناعة: بأننا «نتثقّف». نصعد سلّم الثقافة يوماً تلو الآخر، فندرك أكثر فأكثر أن الفروقات والاهتمامات الثقافية تختلف بين الناس، كما أن الأولويات متباينة بين مثقّف ومثقّف، وبين متعلّم وآخر.
هل ثمّة ثقافة عربيّة تجمعنا؟ حتماً لا! أو لا أجد رابطة قوية متينة بين مختلف الثقافات؟ الثقافة تبدأ من السرير، والطعام والمأكل، ناحية أساسيّة من ثقافتنا، أسلوب العيش، التربية، القراءة، التوجيه، الاهتمامات الثقافية...عالم الثقافة أوسع مما نتخيّل.
بيد أن علينا أن نحسب حساباً لما يجمعنا خاصة مع البلاد العربية...فهناك وحدة التراث، وحدة الالتزامات والواجبات العائلية، وحدة المستقبل، ملامحه وآفاقه.
لماذا أجد من واجبي أن أركّز على الثقافة محاولة إعطاءها كل الأولويّات؟ الثقافة تقرّب وتجمع وتتناول كل تفاصيل الحياة..من الطعام والمأكل، والمشروبات وطريقة تناول كل هذه. كما التربية والمنشأ والتعلّم، والقراءة وانتقاء الكتب التي نقرأها..ومتابعة شاشات التلفاز، المسلسلات...وغيرها. ومستوى الإنسان الثقافي يتيح له الحكم على جودتها..أو فشلها..
أمّا السياسة، فسامحها الله، تفرّق بين الأخ وأخيه، إلى حدّ تجعل منهما أعداء..بالمستوى الشخصي الفردي إلى مستوى الدول، وإذا كان ثمّة تقارب في السياسة أو تفاهم، فإن هذا الوضع لا يلبث أن ينقلب ويتحوّل إلى خلافات تصل إلى العدوانيّة والمقاطعة، ولدينا تجارب تاريخيّة عديدة وحاليّة...تؤلم وتوجع. لا تحول، والحمد لله، بين التقارب والتعاون والتبادل الثقافي. هل نتمكّن من نسيان الحروب والمآسي التي حلّت بين الشعوب والدول؟ هل نتمكّن من نسيان الاستعمار الذي أثقل علينا وعلى غيرنا من العرب ومن الشعوب، والشهداء والضحايا التي جلبت لنا المآسي والأحزان؟..
أحبّ أن أشير إلى أن شخصيّة المرء تتكوّن بواسطة الثقافة. حين ندخل إلى صميم اللغة والمكالمة، إلى صميم المفاهيم، والقواعد، والأصول والمبادئ، وحين نرث عن الماضي الأحاسيس أو التحسّسات الانفعاليّة، والمواقف المألوفة إزاء الدنيا والعالم، والمراكز المختلفة للاهتمام والتأثر..نتزوّد، في عمليّة التربية الاجتماعيّة، بالجهاز أو الزاد الثقافي الخاص بكل فرد منّا، والذي يجعل لهذا الفرد شخصيّة خاصّة معيّنة وكياناً خاصاً محدّداً.
لا شك أن الدّين ثقافة هامّة علاوة عن كونه إيماناً وتعبّداً. «القرآن الكريم» آداب، لغة فصاحة، مرجعٌ هامٌ للثقافة الدينيّة واللغويّة..والكتاب المقدّس يشكّل دروساً هامّة في الثقافة الدينية ويبعدنا، كما في القرآن الكريم، عن التعصّب والتزمّت..وهذه المراجع الأصيلة والهامّة، تقرّب المؤمنين من بعضهم البعض. الثقافة التي تبدأ مع الطفولة وتنمو وتتّسع مع التربية والتعلّم والتوجيه والقراءة، والمثل العليا تشكّل قناعة لدينا وتدفعنا إلى التسلّح بالمزيد، وتعزّز لدينا الفضول لكسب معارف وثقافات الآخرين.
قيل «من تعلّم لغة قوم أمن شرّهم» ربّما كان هذا القول صحيحاً في حالات ومواقف قليلة نادرة..
أما بالنسبة لي وربما لكثيرين فقناعتنا كالتالي: «من تعلّم لغة قوم، لغة الآخر، نفذ بلا حدود، وبلا تأشيرة دخول إلى عالمه، أدرك كنهه، وعى مفاهيمه، استوعب عقليّته، فهم أدبه، نفذ إلى عاداته وتقاليده، والأهم تعرّف على «ثقافته»، وهذه الأخيرة تشمل مأكل الآخر ومشربه، وعلمه، وأداءه وآدابه، وسلوكه، والكياسة والحصافة لديه، وحسن تصرّفه..ألا يكوّن كل هذا منفذاً للسلام مع الذات ومع الآخر؟ يحضرني في هذا السياق قولٌ للبحّاثة «هوبير جولي» الأمين العام للمجلس الدولي للغة الفرنسيّة...وهو شغوفٌ باللغة العربيّة، وكان يلقي محاضرة على منصّة مجمع اللغة العربيّة في دمشق، فاستوقفتني قناعاته..
ومما قال: «إذا كانت العلاقة المميّزة التي ربطت اللغة الفرنسيّة باللغة العربيّة، لم تعد كما كانت، علينا أن نعيد بناءها..فالإشكالية التي تعيشها كل لغة، تبدو مماثلة لإشكالية اللغة الأخرى، علاوة على أن الجهود التي تُبذل لترقية إحدى اللغتين، يمكن أن تعتمد نموذجاً أو مثالاً للغة الأخرى». بالنسبة لي ولكثيرين نجد أن التقارب بين اللغات يكوّن حجر أساس للتقارب بين الثقافات. أتمنّى بل أرجو أن تبقى الثقافة بكلّ نواحيها، طريقة لقاء وتقارب، وأن يبقى العلم، والثقافة ومعرفة اللغات هدفاً أساسياً لنا ولمستقبل أطفالنا...
إذا كان الإلمام بالثقاقة متعذّرا لغنى ألوانها وأنواعها، وكونها بزغت مع بزوغ الحياة، علينا أن لا يفوتنا غناها، ولا نستهين بأصغرها من الإبرة والخيط إلى الفنون الشعبيّة، والفنون الجميلة، والموسيقا واللحن وأنواع الأطعمة، والتقاليد العائليّة، تدرّجات لها أول وليس لها آخر..من المتعذّر الإلمام بها...
فهل نحن مثقفون....أم نتثقّف؟ أمّا الادّعاء فنتركه جانباً.