حيث وجد الدكتور علي خضور يجلس وحيداً، وقبل أن يصل إليه ليسلم عليه بادره الدكتور قائلاً: لعلك أصبحت ثرياً حتى لم تعد ترى أحداً، ولا تسلم على أحد.
بالرغم من أنه أدرك أن التحرش به عن طريق المداعبة هو المقصود، إلا أنه لم يتقبل تلك الدعابة، فهو يحمل في داخله احتراماً وامتناناً كبيرين لهذا الدكتور الذي تربطه به معرفة قوية، ولا يستطيع أن ينسى أريحيته العالية وإنسانيته الرائعة وما قدم له من خدمات طبية أعجزت لسانه عن الشكر، مع أن تلك المعرفة القديمة كانت أقل بكثير مما قدم هذا الطبيب من عمل جراحي ورعاية طبية وإنسانية استغرقت وقتاً طويلاً دون أي مقابل مادي.
اقترب من الدكتور، وبعد أن بادله التحية استأذنه بالجلوس، وبجدية لا تتناسب مع الدعابة التي وجهها له الطبيب حول ثرائه وتغيره قال: يا دكتور علي. لا بل سوف أخاطبك بكنيتك. يا أبا حسين.
والله لم أصبح غنياً بعد، ولا يبدو أنني في طريقي لهذا. وإن حصل فلا أعتقد أن الثراء سوف يغير مني شيئاً. وإني أستأذنك في أن أروي لك حادثة أحفظها، قال الدكتور علي: تفضل. فبدأ هذا بالسرد.
كان والدي رحمه الله يعمل في خراطة الخشب. وأمضى عمره في تلك المهنة، ومن بين يديه وقوسه وإزميله خرجت قطع فنية رائعة.
وحين عمت آلة الخراطة الكهربائية، واقتناها معظم أصحاب المهنة، لم تثره تلك الآلة، وبقي أميناً لقوسه اليدوي القديم. يجلس على كرسيه الواطئ وراء المخرطة يضغط بأصابع قدمه اليسرى على الإزميل الذي يمسكه بقبضة يده اليسرى أيضاً، فاليد اليمنى مخصصة للقوس الخيزراني الطويل الموصول بحبل رفيع من طرفيه الاثنين، يلتف الحبل على القطعة الخشبية ويدورها أماماً وخلفاً ليعمل الإزميل فيها عمله بصبر وأناة كما النحات الذي يبدع تمثاله.
من والدي هذا سمعت أنه كان في إحدى المرات يتناول طعام الغذاء في دكانه كعادة أهل الدكاكين آنذاك في جلب طعام الغذاء معهم لتناوله في الدكان
في الوقت ذاته كان وعلى الرصيف الذي أمام دكانه يجلس«حمال» وقدفتح صرة طعامه وبدأ يتناوله، ثم تقدم من والدي دون أي معرفة مسبقة ليقدم له بصلة قائلاً: اشتهيت لك هذه البصلة مع طعامك، ثم عاد إلى موقعه على الرصيف ليكمل طعامه.
يا دكتور، هذه الحكاية لم أسمعها من والدي مرة واحدة، بل سمعتها عشرات المرات عبر سنوات طويلة وهو يعيد روايتها في مجالس مختلفة، وفي كل مرة كان يعقب في أنه مدين لهذا الحمال الذي قدم له بصلة دونما معرفة مسبقة بلا غاية أو مقابل، ويضيف والدي رحمه الله كل مرة وفي نهاية الرواية أنه كم كان يتمنى لو التقاه مرة أخرى ليرد له ذاك الجميل.
يادكتور أنا ابن ذاك الرجل الذي حمل في عنقه، وفي ذاكرته بصلة، وطوقه جميل صاحبها لأكثر من أربعين سنة ظل يرددها في مجالسه ضمن حكاياه.
فهل يمكن أن أتحول إلى شخص آخر إذا ما أصبحت ثرياً يوما ما.
وأنا قريبة ذاك الرجل الذي لم ينس فضل عابر سبيل قدم له بصلة في يوم من الأيام.
تصنع الدكتور علي خضور حالة العبوس،وقال:يا رجل كنت أمزح معك قلبتها دراما... صحيح إنك حمصي عن جد.
ضحك الاثنان بكل ما في العالم من صفاء وأخذا باستعادة الذكريات