تروي كتب التراث هذه الحكاية إن دلت على شيء دلت على علو الأخلاق والامتناع عن الغدر بالصديق، تقول الحكاية: «نزل رجل على صديق له مستتراً خائفاً من عدو له فأنزله في منزله وتركه فيه وسافر لبعض حوائجه وقال لامرأته: أوصيك بضيفي خيراً، فلما عاد بعد شهر قال لها كيف ضيفنا؟ قالت: ما أشغله بالعمى عن كل شيء، وكان الضيف قد أطبق عينيه، فلم ينظر إلى امرأة صاحبه ولا إلى منزله إلى أن عاد من سفره.
وكان الشاعر عمر بن أبي ربيعة عفيفاً يصف ويعف ويحوم ولا يرد، ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال لها: يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما كان يقوله جميل، فقالت: يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إلي بعينين ليستا برأسك. قال: فكيف رأيتيه في عشقه؟ قالت كما قال الشاعر:
لا والذي تسجد الجباه له
ما لي بما تحتها خبر
ولا بغيها ولا هممت بها
ما كان إلا الحديث والنظر
وتروي الكتب أيضاً أن شاباً راود ليلى الأخيلية عن نفسها فاشمأزت منه وقالت:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب إن ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى صاحب وخليل
وروت الكتب التراثية أيضاً أن إبراهيم بن المهدي اختفى في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت واحدة زمنها في الحسن والأدب اشترتها بخمسمئة ألف درهم، فهواها إبراهيم وكره أن يراودها عن نفهسا فغنى بها يوماً وهي قائمة على رأسه:
يا غزالاً لي إليه
شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء
الضيف إحسان إليه
ففهمت الجارية ما أراد، فحكت ذلك لمولاتها، فقالت: اذهبي إليه واعلميه أني قد وهبتك له، فعادت إليه، فلما رآها أعاد البيتين، فأكبت عليه، فقال لها: كفى، فلست بخائن، فقالت قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم.
وأنشد الشاعر المبرد:
ما إن دعاني الهوى لفاحشة
إلا نهاني الحياء والكرم
فلا إلى فاحشة مددت يدي
ولا مشت بي لزلة قدم
وقال آخر:
يقولون لا تنظر فذاك بلية
بلى كل ذي عينين لابد ناظر
وهل باكتحال العين بالعين ريبة
إذا عف بينهن السرائر
وكان بعض الخلفاء قد نذر على نفسه ألا ينشد شعراً، ومتى أنشد بيت شعر فعليه عتق رقبة، قال: فبينما هو في الطواف يوماً إذ نظر إلى شاب يتحدث مع شابة جميلة الوجه، فقال له: يا هذا اتق الله أفي مثل هذا المكان؟ فقال: يا أمير المؤمنين والله ما ذاك لخنى، ولكنها ابنة عمي وأعز الناس علي، وإن أباها منعني من تزوجها لفقري وفاقتي، وطلب مني مئة ناقة، ومئة أوقية من الذهب ولم أقدر على ذلك، قال فطلب الخليفة أباها ودفع إليه ما اشترطه على ابن أخيه ولم يقم من مقامه حتى عقد له عليها ثم دخل الخليفة إلى بيته وهو يترنم ببيت شعر فقالت له جارية من حظاياه: أراك اليوم يا مولاي تنشد الشعر، أفنسيت ما نذرت، أم نراك قد هويت، فأنشد هذه الأبيات:
تقول وليدتي لما رأتني
طربت وكنت قد أسليت حينا
أراك اليوم قد أحدثت عهداً
وأورثك الهوى داء دفينا
بحقك هل سمعت لها حديثاً
فشاقك أو رأيت لها جبينا
فقلت شكا إلي أخ محب
كمثل زماننا إذ تعلمينا
وذو الشجو القديم وإن تعزى
محب حين يلقى العاشقينا
تلك كانت أخلاقهم رجالاً وحكاماً، فأين لنا منهم في هذا الزمان الفاسد حيث المرأة سقط متاع والرجال شهوانيون إلى حد القتل.
**** ****
انهضي .. كطائر الرعد
سلامتك
حدقي بي طويلاً أيتها السيدة الرمحية
ها أنا أصير بك أولى الأساطير
اغسليني من غبار أيامي
سرجي لي خيول الفرح
تهبين على عالمي رائحة الحقول في ربيعها
أنا البحر المالح وأنت كل المراكب
اذهبي معي حيث تنقلنا الرياح
اذهبي معي دون خوف
سلامتك معي دون خوف
سلامتك من المرض
من العينين الغائرتين
من الوجه الأصفر المتعب
سريرك الأبيض والشرفة المطلة على الحدائق
والحقن في عروق يديك
ذروة الألم ذروة الاشتياق إلى الحياة
لا تخافي يا حبيبتي..
غداً تخرجين من قفص التعب
وتغردين، مثلما كل مرة ستغردين
وتشاركك العصافير الغناء
لا تخافي
ستعود إلى وجهك العافية
وسيتلمس قلم الحمرة شفتيك الرقيقتين
انهضي كطائر الرعد
لا تليق بك إلا الحياة