ورداً على اعتداء إسرائيل على جيشه في سيناء قبل أكثر من شهر، ولم يكن لأحد غير هذا الشعب دور فيها على نحو ما جرى ترويجه - هو: هل هذه الأحداث تعبير عن أزمة سفارة كما جرى تداولها إعلاميا وسياسياً للتقليل من أهميتها, أم هي تعبير عن أزمة تاريخية للكيان الإسرائيلي تعود لتطل برأسها من جديد بعد التحولات العاصفة في مصر وفي مقدمتها إسقاط النظام الحاكم لمصلحة تغيير أوضاع مصر وبوصلة توجهاتها السياسية عربياً وإقليمياً...؟
في الظاهر قد تبدو أحداث السفارة انعكاساً لأزمة ديبلوماسية.. وقد ترغب إسرائيل بتصويرها على هذا النحو بغية تسهيل حلها بتغيير السفير أو تغيير المقر بآخر أكثر تحصيناً او بتسوية بعض الخلافات الطافية على سطح العلاقات حول قضايا معينة.
لكن عندما يكون الشعب العربي هو صانع الحدث ضد السفارة, ويكون الهدف هو إنزال العلم الإسرائيلي والتجمهر بالآلاف تحت شعار «تصحيح المسار» تعبيراً عن رفض وجود السفارة كرمز لوجود إسرائيل والاعتراف به, فعندئذ تتخطى المسألة حدود الأزمة الديبلوماسية التي غالباً ما يمكن حلها بين الدول بالتوافق وحل نقاط الاختلاف , إلى أزمة لإسرائيل يفرضها عليها شعب مصر بعدم اعترافه بها وبنظرته إليها ككيان غير شرعي, وقبل هذا نظرته إليها كعدو تاريخي وحيد له في المنطقة.
وللقول بأن أحداث السفارة انعكاس لأزمة تاريخية عادت لتعيشها إسرائيل أكثر من انعكاس لأزمة علاقات ديبلوماسية, مبرراته الموضوعية في إخفاق السياسات الإسرائيلية المنصبه تاريخياً حول الخروج من هذه الأزمة بوسائل اختراق جدار الرفض العربي للوجود الإسرائيلي.
فمنذ العام 1948 ركزت السياسة الإسرائيلية على محاولة إحداث ثغرة في هذا الجدار تنفذ منها إلى علاقات تقودها إلى إحداث نواة قبول عربي بكيانها, وكان دافيد بنغوريون يتوقع التوصل إلى هذا الهدف مع لبنان أومصر ويعطي الأرجحية فيه إلى لبنان أولاً لنظرته إليه على أنه «الحلقة الأضعف في الائتلاف العربي» بحكم تركيبته الدينية والمذهبية التي حاولت إسرائيل اللعب كثيراً عليها بإثارة التناقضات بين مكوناتها.
لكن المفارقة التي حدثت أن لبنان استعصى على هذا الهدف بفضل تحالفه القومي الراسخ مع سورية وتمكن هذا التحالف من الصمود في مواجهة كل محاولات إخضاعه وتحويله إلى ثغرة النفاذ إلى الجسم العربي , فيما انفتحت مصر أمام سياسة الاختراق بكامب ديفيد, لتكون أول دولة عربية توقع معاهدة صلح مع إسرائيل وتقيم معها علاقات ديبلوماسية كاملة أرادتها إسرائيل مطية للتطبيع الكامل, لكنها لم تفلح بسبب رفض الشعب للتطبيع انطلاقاً من ثوابته الوطنية والقومية وفي مقدمتها نصرة قضية فلسطين والتمسك بدور مصر الريادي في مواجهة المشروع الصهيوني وخطره على الوجود العربي.
وبالنظر إلى أن كامب ديفيد أخرجت مصر بالفعل من ساحة الصراع, وحولتها من قوة داعمة للنضال ضد الصهيونية ترسخ أزمتها وتسد عليها كل المخارج, إلى قوة حليفة لإسرائيل وأميركا تسهر على تأمين مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة وترعاها, استقر الذهن الإسرائيلي على قناعة أن الأمن على طول الحدود مع مصر بات مضموناً، خصوصاً وأن تجربة ثلاثة عقود من الزمن أثبتت ذلك, ما دفع نتنياهو إلى وصف الرئيس المصري السابق حسني مبارك بأنه «ثروة استراتيجية لاتقدر بثمن بالنسبة لإسرائيل»
وعلى خلفية هذه القناعة, تصورت إسرائيل بأن أزمة وجودها مع محيط لايعترف بها باتت في طريقها إلى الحل مستندة في ذلك إلى تحييد أكبر قوة عربية في معركة الصراع واستدراجها إلى خندقها, وترويج السادات لنظرية « أن حرب تشرين هي آخر حروب الصراع لأنه لاحرب دون مصر» وذلك بالرغم من أن إسرائيل بحكم كونها مركباً عدوانياً هي التي نقضت هذه النظرية بحروبها المتكررة ضد لبنان والشعب الفلسطيني.
وطوال العقود الثلاثة من كامب ديفيد, لم يخطر على بال ساسة إسرائيل ومنظريها الاستراتيجيين أنهم سيصحون على يوم يرون فيه حلم الخروج من أزمة الوجود التي رافقتهم منذ تأسيس الكيان ووجدوا إمكانية تحقيقه تتبدى في العلاقة مع مصر, يتبدد في مصر نفسها وعلى أيدي شعبها وبحراك كان كالبركان تتساقط حممه على علاقات سرعان ما أدركت إسرائيل هشاشتها لفرط زيفها وتناقضها مع طبيعة الصراع وحقائقه التاريخية وذاكرة الشعب المصري التي لا تنسى وتعرف كيف تميز العدو من الصديق.
كيف حدث ذلك..؟ حدث في انتفاضة شعب مصر ضد نظام آثر الالتزام بتحالفه مع عدو الشعب على التزامه بخدمة الشعب ومصالحه.. وحدث عندما وجد شعب مصر بأن ثروته الوطنية من الغاز تذهب مجاناً لعدوه, وأن هذا العدو الذي استمات على السلام مصر, لايردعه هذا السلام ومتطلبات الحفاظ عليه عن الاستخفاف بهيبة مصر وجيشها وانتهاك سيادتها وقتل خمسة من جنودها بدم بارد, في محاولة لإخافتها من أي أفكار تراودها بخصوص غسل يديها من عار كامب ديفيد.
وفقط بعد أحداث مصر ونجاح الشعب في دك وكر العمالة والإذلال, بدأت الصحوة الإسرائيلية من وهم الاطمئنان إلى مفتاح الخروج من الأزمة، وبدأ القادة الإسرائيليون يستعيدون مفردات ومصطلحات غابت عن عقولهم ردحاً من الزمن كقول شاؤول موفاز « بأن ما حدث في مصر إنذار استراتيجي لإسرائيل» وقول تسيبي ليفني « المرحلة الحالية غير واضحة والخوف ينتاب مواطني ودولة إسرائيل إزاء المستقبل وإن إسرائيل دولة صغيرة محاطة بالأعداء».
وإن كان ثمة دلالة لهذا الخوف, فهي عودة إسرائيل إلى أزمتها الكبرى من بوابة أزمة سفارتها في مصر, ومن خلال التصميم الذي أبداه الشعب المصري على العودة بمصر إلى سابق عهدها قوة دفاع عن الوجود العربي, ما يؤكد حقيقة أن ما حدث ضد السفارة الإسرائيلية لم يكن في حقيقة الأمر إلا تعبيراً عن أزمة الكيان المستديمة والناشئة عن كونه جسماً غريباً في جسد المنطقة.