وجاء بسلوك يطرح أسئلة عن سبب الاندفاع العدائي هذا، وعن الوجهة النهائية لتركيا في علاقاتها الخارجية، ثم هل إن تركيا تحتمل تداعيات العلاقات السيئة مع سورية؟
إجابة على التساؤلات هذه تطرح فرضيات منها:
أ- إن تركيا قررت الانخراط أخيراً في عمل عسكري ضد سورية بغية إسقاط النظام وإقامة «نظامها الإسلامي- العلماني مكانه» ليكون مدخلاً إلى إرساء العثمانية الجديدة وهي بحاجة لتوتير الأجواء والقطيعة من أجل التحضير لبيئة الحرب المقبلة.
ب- إن أردوغان ظن أنه حقق نجاحاً في جولته العربية في شمال إفريقيا حيث سقط الحكام تتالياً «بن علي في تونس- مبارك في مصر - القذافي في ليبيا» وهو يريد أن يوسع انتصاراته في سورية ليتخذها مدخلاً طبيعياً لإقامة العثمانية الجديدة.
ت- إن أردوغان الذي صفعته سورية بصلابتها، وخذله الشعب السوري بتوحده في أغلبيته الساحقة حول نظامه وأنبه أوباما لعجزه عن إنفاذ المهمة في سورية كما عهد بها اليه أسياده في الأطلسي، أراد ان يعوض الإخفاق والفشل فخرج بالصوت العالي ليخفي حقيقة خيبته.
ث- إن أردوغان الذي يئن ويتخبط في مواجهة الأكراد يريد أن يظهر قوته وحجمه في الضغط على سورية بوصفه قوة إقليمية ودولية كبرى لا يمكن أن يتجاوزها أحد.
هذه هي الفرضيات فأين الحقيقة من كل ذلك؟
وفي دراسة موضوعية للواقع نرى:
1- بالنسبة للتدخل العسكري، نذكر بأن تركيا لعبت هذه الورقة بجس النبض في جسر الشغور، ولم تكن النتائج كما تريد بل انقلبت عليها شراً تعدى ما يتوقع حيث إنها بعد الفشل الميداني لمن احتضنتهم وأغرتهم بالعمل المسلح ضد النظام حصدت خسائر استراتيجية بالغة الخطورة حيث كان التدهور للعلاقة بين أردوغان وحزب الشعب الجمهوري التركي على اساس طائفي اسقط اردوغان في الساحة العلمانية التركية وسبب له متاعب مستقبلية لا يستطيع ان يتخطاها بسهولة، هذا فضلاً عن تحمل اردوغان وحكومته نتائج الفضائح الأخلاقية الشنيعة التي ارتكبت في المخيم التركي للسوريين الذين غرر بهم استدرجوا اليه، واخيراً يعلم اردوغان ان سورية لا تستفرد ففضلاً عن جيشها القوي وشعبها الصلب هناك المنظومة الاقليمية والدولية التي تحتضنها وان الساحة التركية غير منيعة امام الرد العسكري لكل ذلك نرى بأن اي تفكير تركي الآن باللجوء الى الميدان العسكري لن يكون أقل من انتحار سياسي لأردوغان، وفضيحة عسكرية لتركيا.
2- وبالنسبة للعقوبات يوحي اردوغان بمقاطعة اقتصادية لسورية، وهنا نذكر بأن الميزان التجاري للعلاقات السورية التركية هو لصالح تركيا بنسبة واحد الى خمسة على الأقل، وإن سورية تستطيع ان تستغني عن السوق التركي كلياً أما العكس فليس ممكناً إلا مع خسارة فادحة وبالتالي ستجلد تركيا نفسها قبل سورية اذا قاطعتها، أما ما قررته من منع عبور الطائرات التي تحمل عتاداً عسكرياً لسورية فإنه فارغ المضمون، ويبقى ما أعلنه أردوغان من اعتراض باخرة زعم انها تحمل اسلحة الى سورية، وفي هذا فتح باب نزاع لا يعتقد ان تركيا قادرة على مواصلة السير فيه وهي تعلم ذلك.
3- وعن قطع الاتصالات، فإن الامر مضحك ومثير للسخرية، فكيف يقطع المقطوع، ألم توقف الحكومة التركية اتصالاتها بسورية منذ اكثر من شهر تقريباً، ألم يعلم اردوغان ان في سورية رجالاً لا يخضعون للابتزاز والتهويل وانهم ينشدون الصداقة مع رفضهم للاستتباع؟ وقد جربت تركيا القطيعة فما الذي حصدته منها؟
4- وعن الجولة الافريقية لأردوغان، وتصويباً للصورة فإن تركيا لم ولن تحصد ما تصبو إليه، حيث ان مصر في واقعها القائم وما يرتقب عليه ان تكون، لن تلتحق بتركيا تابعة لها، كما انها لن تفتح لها الباب لترسي عثمانيتها الجديدة (ومصر نازعت سلاطين بني عثمان وهم في أوج مجدهم) ولن تتخلى مصر عن دورها العربي الذي تستعد للعودة اليه، اما ليبيا فإن الغرب لن يدع تركيا تستفيد من موطئ قدم فيها أبعد وضع يده عليها (لم يقاتل الغرب من اجل تركيا)، تبقى تونس وهي على اهميتها كدولة عربية ناشئة على طريق ديمقراطية واعدة فإنها في قدراتها الذاتية وموقعها الجيوسياسي لا يمكن ان تلبي الطموح التركي، الامر الذي يقودنا الى القول ان اردوغان نفذ في جولته العربية في افريقيا عملاً استعراضياً لن تتعدى نتائجه الصور والافلام التي التقطت.
وعلى ضوء ما تقدم، فإننا لا نرى في مواقف اردوغان في نيويورك انقلاباً استراتيجياً ينذر «بمخاطر جدية تهدد سورية» في المرحلة المقبلة، لأن الانقلاب التركي حصل اصلاً منذ ان ارتضت تركيا لعب دور الاداة للغرب ضد سورية ورعت جماعات اسلامية العنوان للخروج على النظام، وقدمت الملاذ الامن لكل من عمل ضد النظام.
لكل ذلك لا يبقى من تفسير لمواقف اردوغان إلا القول إن الرجل الذي احترف الاستعراض السياسي اضاف الى سجله استعراضاً جديداً ولكنه جاء اجوف واهناً، استعراضاً قام به لتغطية إخفاقه في تنفيذ التزامات قطعها لأميركا في الشأن السوري، فخرج يهدد ويتوعد مدعياً بأن النظام السوري دفعه الى ذلك، تبريراً اثار السخرية، اذ رد عليه: ما الذي قامت به سورية ضد تركيا حتى تناصبها العداء:
هل أخطأت سورية في التمسك بسيادتها وقرارها المستقل؟ أم أخطأت في رفض الاستذة التركية؟ أم أن فرض الامن والنظام في سورية خطأ؟ أم ان دعوة الحكومة السورية الشعب للحوار على الارض السورية بغية اطلاق الاصلاح خطأ؟
فإذا كان في ذلك اخطاء دفعت اردوغان الى المواقف السلبية العدائية من سورية والتخبط في مواقفها الانقلابية، فعلى تركيا- اردوغان أن تنتظر المزيد من هذه «الأخطاء» وتكون على تخبط اكبر في السياسة، خاصة بعد ان افشلت سورية المؤامرة الخارجية عليها وخرجت من دائرة الخطر ممسكة بثبات بالوضع الامني والقرار السياسي، لكن هل سينتظر الشعب التركي طويلاً ليتخذ الموقف المناسب من المراهقين السياسيين الذين يسيئون إليه ولمصالحه مع الجوار؟
*أستاذ جامعي وباحث استراتيجي