فترة كنت فيها كمن سيطرت الحمّى على عقلي، فكانت عشرات القطع الصغيرة من ذلك الشعر قمت بتسجيلها على أوراق مختلفة منها مناديل الكلينكس.
لم أكن أصلاً أعتبر نفسي شاعراً، إلا أن ذلك الشعر الحر نسبته إلى شاعر إسباني غجري بحثت له عن تسمية فكان (دون خوزيه زخارياس)، كما أني أطلقت على تلك المجموعة اسم (نزوة ثور جريح). وقد نشرت ترجماتي لهذا الشعر في أكثر من صحيفة، كما قامت مجلة الآداب اللبنانية بتخصيص صفحة كاملة لهذا الشعر... وهنا جاءت المشكلة.
وقد حدث أن زارني في حلب بعد أشهر صديقي الدكتور شكيب الجابري الروائي المعروف وواحد من أهم الكتّاب السوريين. وفي اللقاء الذي أسعدني فوجئت بسؤال الجابري: ماذا فعلت بمجلة الآداب وبصاحبها رئيس التحرير الدكتور سهيل إدريس؟
وأضاف بقوله أنك أرسلت ترجمة الشعر الإسباني ونُشرت، وهذا جهد تشكر عليه، وكنت قد قرأتها معجباً بها، ولكن المحلق الثقافي في السفارة الإسبانية ببيروت طالب مجلة الآداب بالنص الأصلي، لأن الملحق اتصل بكافة المؤسسات الثقافية الإسبانية ليطلب منها البحث في الموسوعات الشعرية أو الدواوين التي تخص الشاعر (دون خوزيه زخارياس)، وجاء الجواب بأن هذا الشاعر دون خوزيه لم يعثر له على دليل وجود، فهل يعني أن المترجم قد عثر على مخطوطة للشاعر أو أن في الأمر ما يشير إلى اختراع شعر نسب إلى رجل مجهول أو غير موجود. وأضاف الدكتور الجابري أنه بالرغم من صلة هذا الشعر إلى الثور في المبارزة غير العادلة والتي عرفت به إسبانيا، فإنه لا بد أن يكون لشاعر إسباني.
وكنت أقد أصغيت إلى كلام الرجل الذي أحترمه وأعجب بأدبه الروائي والقصصي، إلا أنني لم أستطع إلا أن أقر بحقيقة الحكاية. اعترفت للجابري بما حدث من رغبتي في تصوير المثقف العربي في صراعه الذي سينتهي حتماً بالقضاء عليه. آنذاك انفجر الجابري ضاحكاً وهو يعلن عن خديعتي التي أتقنتها مثنياً على براعتي في الكذب الأبيض.
بعد سنوات كثيرة جمعتني ندوة في تونس بالدكتور سهيل إدريس الذي لم أقابله منذ حادثة الترجمة ولربما قبلها. كنت حريصاً على تفادي الخوض في الموضوع، ولكن الدكتور إدريس فاجأني بحديثه عن تضليل مجلة الآداب، متعاملاً مع الخديعة بلطف اشتهر به. وسأل إن كنت فعلت مثل هذا من قبل أو بعد فأعلنت أني تبت. وقلت بجدية أني في شبابي الأول لم أستطع أن أقف محايداً من مشكلة المثقف العربي وكأنه الثور الشجاع لا يملك من أمره في مواجهة القوى الغاشمة، والتي ستضع حداً لحياته الفكرية.
ومازلت حتى يومي هذا أفهم قضية الشجاعة الثقافية وأعبر عنها، وإن كنت لم أكرر تجربة اختراع الشعر المترجم في (نزوة ثور جريح) لشاعر إسباني غجري اخترعت اسماً له هو (دون خوزيه زخارياس) وليسامحني خيالي.