لقد تحول الجمال خلال المئة عام الأخيرة من كونه مفهوماً أساسياً وقيمة جوهرية إلى كونه معياراً ملتبساً وهامشياً. لقد تحول الجمال في حصيلة تلك التطورات من مرجعية مركزية إلى مجرد حامل لتصدير الأيديولوجيات ولتسويق الكليشيهات الفكرية والسياسية. إلا أن هذه الحالة قد بدأت بالتغير بشكل واضح خلال العشر سنوات الأخيرة. لقد تحولت النزعة المجافية للجمال إلى نزعة مضادة تحاول ترميم الخلل والفجوة التي حولت الجمال من مفهوم أساسي في الفن إلى موضوع ملتبس وإشكالي. ففي جهود المفكرين والنقاد والفنانين في العديد مما ظهر من دراسات وكتب خلال العقد الماضي نلاحظ أن هناك ملامح للتصالح مع مصطلح الجمال وميل للعودة إلى استخدامه دون حرج أو مواربة، وكأن مصطلح الجمال قد بدأ يتخفف مما علق فيه من حمولات أيديولوجية وسياسية.
وفي مجمل المقاربات الجديدة التي تحاول استعادة الجمال من الطرق الموصدة التي أفضت إليها تحولات القرن الماضي، يجاهد المفكرون والنقاد والفنانون لإعادة ابتكار نقاط التماس بين الجمال وبين الحياة كتجربة. وأول تلك النقاط يتجلى في ذلك السؤال الذي طرحه الفيلسوف كانط. هل البحث عن الجمال هو في جوهره بحث عن الإجماع؟ إن عشاق الجمال هم الباحثون عن التوافق، كما قال كانط. ولهذا، فإن تعريف الجمال أو تحديده يتطلب وجود إجماع بين مجموعة تستطيع التوافق على معنى ومعايير محددة للجمال. لكن تذوق الجمال كموضوع يتطلب مسافة ما بين الذات وبين الموضوع الجميل، وهذا ما يتناوله الناقد روجر سكروتن في كتابه الجديد الذي صدر تحت عنوان “الجمال”. يحاول سكروتن في كتابه النظر إلى مسألة المسافة تلك من وجهة نظر معاصرة تأخذ بعين الاعتبار التفاصيل الجديدة التي تتحكم بطبيعة العلاقة مع الموضوع الجميل في عصر ثقافة الصورة والحقائق الافتراضية. فالجمال وفق سكروتن يأتي من وضع الحياة الإنسانية –بما في ذلك الجنس- على مسافة ما بحيث يمكن النظر إليها دون الشعور بالنفور أو بالشهوة. وعندما تزول تلك المسافة، يتحول الجمال إلى مجرد عنصر من عناصر التجربة الفردية لا يمتلك أي خاصية تجعل منه مفهوماً قابلاً للتحديد أو الإدراك.
ولكن لماذا هذا الإصرار على المسافة، وكأن الجمال يجب أن يكون دائماً مؤطراً وبعيداً؟! ألا يغلبنا الجمال ويتحكم بنا في كثير من الأحيان؟! ألا يمكن للجمال أن يكون متعلقاً بحلم الإندماج والذوبان في العالم وبرغبة الإنسان في عناق كلي للوجود حوله؟! لا، هو جواب العديد من النقاد اليوم على هذه الأسئلة! وليس هذا النفي لأن هؤلاء النقاد يحاولون إلغاء أهمية التجربة الجنسية في موضوع الجمال، بل لأنهم يعتقدون أن الجمال هو بالدرجة الأولى أحد وظائف العقل. ويتقاطع هذا الرأي مع أفلاطون الذي اعتبر أن الجمال ليس مجرد دعوة إلى الرغبة، بل نداء للتخلي عنها.
يعتبر سكروتن أن عجزنا عن الحفاظ على المسافة الضرورية وفشلنا في احترام استقلالية الموضوع الجميل قد ساهم في نشوء نزعة النفور من الجمال. وهكذا فإن المتعة والرغبة كما يرى سكروتن يتناقضان مع التجربة الجمالية التي تخبرنا أننا ننتمي إلى هذا العالم وأن العالم متوافق في تكوينه مع رؤانا كمكان يناسب وجود كائنات حية مثلنا. وهذا في الواقع قول جميل ورائع، لكنه لا يخبرنا كيف أن تذوقنا للجمال يتأثر بذلك الإدراك العميق الذي نمتلكه كلنا، وهو أننا في واقع الأمر لا نعيش في عالم أليف تماماً يمكن أن نشعر تجاهه بالانتماء، بل نعيش في عالم نحن فيه غرباء وعابرون ومؤقتون. ولهذا تحديداً، وبسبب ذلك الاحساس العميق بالغربة وبحتمية الرحيل عن هذا العالم، عبر الفنانون العظماء عن الجمال برؤية أكثر عمقاً وشمولية من النظرة العقلانية البحتة التي يسعى سكروتن إلى تكريسها. لقد صور فان كوخ مثلاً ذلك التناقض بين إحساسنا بالجمال وبين غربتنا عن العالم. ورسم رامبرانت امرأة عارية تظهر في لوحته ليست كنموذج مثالي للعري، بل تظهر كحالة لوجود حقيقي عابر وفي طريقه للزوال عن هذا العالم. عمل هذين الفنانين يقدم لنا صورة عن الجمال، لكنها صورة تختلف عن تلك التي تقوم على العلاقات المنطقية والقياسية التي يحاول بعض النقاد اليوم إعادة الاعتبار لها. إن ما كتبه سكوترن في كتابه الأخير هام ومثير للجدل وللتأمل بلا شك، خصوصاً في هذه الفترة التي تشهد فعالية ونشاطاً في البحوث حول الجمال، لكننا يجب التنبه إلى مسألة خطيرة وهي أننا يجب أن نتعامل مع المقاربات النظرية المتعلقة بمفهوم الجمال بشيء من الحذر والعقلية النقدية. علينا فعل ذلك كي لا تؤدي هذه البحوث إلى إعادة تحميل مفهوم الجمال بحمولات أيديولوجية وسياسية تؤدي إلى هجرته من إطار التداول الإبداعي. من المهم هنا ملاحظة أننا في مرحلة انتقالية تبرر للنقاد ارتباكهم وتشوشهم في عملية استعادة الجمال، لكنه من الحيوي ألا ننسى أهمية ألا نعيد تكرار ما حصل خلال المئة عام الأخيرة التي تحول فيها الجمال إلى مجرد كليشيه. فالجمال، ورغم كل الالتباس في تاريخه ومعناه يحتاج إلى الحرية كشرط لتحقق تجربة الإدراك والتذوق..
• ناقد أمريكي. عن أسبوعية الأوبزرفر اللندنية.