تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تطبيقات نقدية على السرد الروائي الجديد

ملحق ثقافي
19/5/2009م
مصطفى الولي

يولد الفن وتتبعه النظريات الفنية ومدارسها. كذلك الأدب، والرواية كجنس حديث وحاضر بقوة وتواصل، هي أيضاً تولد، بأنواعها وأنماطها، شكلاً ومضموناً، قبل الفكر والنقد الروائيين.

‏‏

وحين قارب النقاد فن الرواية، وصاغوا مقولاتهم عنها، وحاولوا بناء ما يدعى «نظرية الرواية»، كان الإنتاج الروائي جسداً حياً، متنوعاً، سبق الأفكار التي تناولته، وقاربته نقدياً.‏‏

وأغلب الظن أن الروائي، وهو ينطلق نحو الكتابة، لا ينطلق من هذه النظرية أو تلك، ولا يقيس فكرة نقدية عن الرواية، ليلتزم بها. غير أن المساهمات الفكرية للنقاد، والباحثين المتخصصين في دراسة الأدب، توسع الآفاق الروائية، وتحض الكتاب على إبداع بناءات فنية جديدة، وتعرفهم أحياناً بما أبدعوه في مضمار الشكل الفني، والذي ربما لم يأت مخططاً له، أو مصنوعاً بتقصد واع.‏‏

يعرفنا كتاب «أنماط الرواية» لمؤلفه د. شكري عزيز الماضي، على الرواية العربية الجديدة، موضحاً من البداية، الفروق في التوصيف للرواية بين مفهوم الحديث والجديد. ثم يذهب إلى دراسته التطبيقية على عدد من الروايات، التي يراها «نمطاً جديداً»، معتمداً على دراسة بناءاتها السردية التي تميزها عن بناءات السرد التقليدي والحديث.‏‏

يلخص الكاتب مفهومه عن الرواية التقليدية بأنها تصميم يعيد إنتاج الوعي السائد، منوهاً بأنه لا يستخدم مصطلح «التقليدية» كاتهام كما هو مألوف عند الكثيرين، بل بدلالته العلمية والفنية. فالصفات النوعية للرواية التقليدية «أنها وسيلة لنقل الأفكار والعظات... تهتم بالوقائع والأحداث أكبر بكثير من اهتمامها بالشخصيات وقسماتها.. لغتها تقريرية أو بلاغية شكلية، تعلوها نبرة خطابية حماسية. كثيراً ما تتحدث شخصياتها بلغة الكاتب وتنقل أفكاره وآراءه..».‏‏

أما مقاربته للرواية الحديثة، فهو يلخصها مكثفة بأنها تصميم يجسد رؤية وثوقية للعالم. «فهي تسعى لتجسيد رؤية فنية للعالم، وكشف جديد لعلاقات خفية، من خلاله تتولد المتعة أو التشويق والجاذبية... وهي ظهرت بالاستناد إلى: تراكم الخبرات الفنية، وتطور الوعي الجمالي والاحتكاك مع تجارب الروائيين الأجانب، واتساع القاعدة المادية لفن الرواية مثل: زيادة عدد السكان، وتعقد العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار التعليم، وزيادة عدد القراء، وانتشار المدارس والمطابع.. كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى الإحساس بضرورة التغير والتغيير، وتجاوز الأدوات التقليدية.. وأسهمت في ولادة الرواية الحديثة الدالة بكليتها على الرؤية الوثوقية الفنية للعالم..».‏‏

يتسع الحجم الأكبر من الكتاب للرواية الجديدة، التي حسب تعريف الكاتب لها: هي تجسيد لرؤية لايقينية للعالم. وهي زمنياً ظهرت وتكاثرت كانعكاس لآثار هزيمة 1967على الواقع العربي. ومن بين تلك الآثار كان المناخ الملائم للتمرد على الجماليات الروائية المألوفة، وإبداع شكل روائي جديد، بعناصره وبنائه، وتفاعلاته الذاتية والموضوعية، وفلسفته وقيمه الفنية التي يسعى إلى تجسيدها. وتستند التجارب الروائية الجديدة، إلى مفهوم جديد للرواية والفن عموماً، ولجماليات التلقي، وللعلاقة بين المتخيل والواقعي والأدب والواقع.‏‏

أطلق النقاد أكثر من مصطلح على ما يدعوه المؤلف «الرواية الجديدة» ذلك أنها مفارقة للرواية الحديثة، معنى ومبنى. وهناك تسميات لها منها: «رواية اللارواية، والرواية التجريبية، ورواية الحساسية الجديدة، والرواية الطليعية، والرواية الشيئية، والرواية الجديدة. والملاحظ أن مصطلح الرواية الجديدة، يشمل كل ما هو جديد، ويحتوي على صفات متعارضة وألوان متباينة.‏‏

ويذهب المؤلف إلى تطبيق أفكاره ومفاهيمه على عدد من تجارب الروائيين العرب، باعتبار أعمالهم التي تناولها تقع تحت عنوان: رواية جديدة. وهؤلاء هم:‏‏

إميل حبيبي، وحليم بركات، والياس خوري، وتيسير سبول، ومؤنس الرزاز، ومي التلمساني، وأحمد المديني، وفاضل العزاوي، وابراهيم نصر الله، والطاهر وطار في أعماله الجديدة، بدءاً من العام 1996، ورؤوف مسعد. والملاحظ أن المؤلف أجرى دراسته التطبيقية على عدد من كتاب الرواية الجديدة، وليس على كل الروائيين العرب، الذين قدموا روايات يشملها مصطلح «جديدة».‏‏

بنية السرد في رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، نجد لها اصطلاح السرد المهجن والمفارقات. و العنوان يدلل على مفهوم للمفارقات، التي تجعلنا نحس بالدهشة، وتدفعنا إلى التأمل «فهناك التضاد بين وقائع غريبة أي غير متوقعة، وتضاد بين السعادة والنحس، وكلمة المتشائل منحوتة من المتفائل والمتشائم، فسعيد يقف على الحد الفاصل بين التفاؤل والتشاؤم.‏‏

وحقيقة إن روايات إميل حبيبي، تعتمد على المفارقة، من العناوين إلى الموضوعات والصور الوصفية والسردية وانتهاء بالنسيج اللغوي والبناء الفني. لذا يمكن القول إن توليد المفارقة في رواياته من الصفات المميزة والخاصة لصوته الإبداعي. وهي تحدث أكبر الأثر بأقل الوسائل تبذيراً «فهي تخضع لمبدأ الاقتصاد اللغوي والتكثيف الإشاري، كما تنطوي على مبدأ آخر هو مبدأ عدم التوقع الذي يثير الدهشة، فأن يُسرق اللص، أو يغرق مدرب السباحة، مفارقتان تشيران إلى أن هذا الأمر غير محتمل فعلاً. أي تشيران إلى الفرق بين ما يتوقع حدوثه وما يحدث فعلاً. وكلما اتسع هذا الفرق كبرت المفارقة» (ماكس بيربوم).‏‏

أما السرد المهجن لدى حبيبي، فهو ما يحيلنا إلى البناء الفني للرواية، فنقف على جمع مشوق لفنون المقالة والسيرة والرواية التاريخية وفن الملحمة، ويوظف أساليب فنية حديثة مثل التداعي وتيار الوعي والتذكر والرموز والسخرية الناعمة.‏‏

أما عند الروائي حليم بركات، يقف الكاتب على ما وصفه بالسرد الغنائي، ويعرِفه بأنه «يتجسد من خلال التصميم لا الحبكة.. ويمكن القول من خلال الصراع بين الحبكة والتصميم مع غلبة الأخير وهيمنته».‏‏

بنية أخرى للسرد في الرواية العربية الجديدة، يسميها المؤلف: الدوائر الدلالية. والنموذج الذي اختاره هذه المرة هو رواية «مملكة الغرباء» لالياس خوري، التي تجسد حقائق فنية جديدة وخفية من خلال الومضات واللقطات الفنية المبعثرة، والانحرافات السردية، وتداخل الأزمنة ومفارفات الأمكنة، ومن تماهي الشخصيات وتوازي المصائر وتنافر الأفعال وصهر التاريخي مع المتخيل. أما العنوان «مملكة الغرباء» فهو يجسد التضاد بين المفرد والجمع، وبين الاستقرار والحركة والمكوث والترحال، وبين التحقق النسبي (مملكة) والشعور الدائم بالغربة والاغتراب (الغرباء). كما يتمرد السرد على جماليات الترابط والتسلسل والوحدة وتنهل من جماليات التجاور والتوازي والتقاطع والتداخل والانحرافات السردية المتكررة، وهذا ما جعل بنيتها مفتوحة ومتحركة. وهو ما فرض اصطلاح «الدوائر الدلالية».‏‏

السرد الفسيفسائي، هو بنية سردية جديدة، يطلعنا عليها المؤلف من خلال تحليل بنية رواية «النخاس» لصلاح الدين بوجاه.‏‏

ويأخذ التفكك كبنية جمالية، وهو يتناول رواية تيسير سبول «أنت منذ اليوم، ورواية مؤنس الرزاز «الشظايا والفسيفساء» نموذجاً لجماليات التشظي، ويدرس بالمقارنة بين الروايتين، بنيتين متناقضين، لكنهما متكاملتين بالمعنى الفني والجمالي..‏‏

سيرة الأِشياء، وصف للون من الروايات الجديدة. والنص المدروس هو رواية «هيليوبوليس» لمي التلمساني. حيث نجد السلطة الخفية للأشياء، أو سلطة من نوع خاص، وأمام هذه السلطة تبدو الشخصيات الإنسانية باهتة جداً، فهي مجرد أسماء أو رموز أو حالات أو ظلال مختزلة في الأشياء. لأنها «الشخصيات» تقدم من خلال وصف دقيق لأشيائها، وأثاثها، لا من خلال الحركة والفعل. وهذا يعني استلاب الشخصية الإنسانية، وأقله تهميشها.‏‏

والملاحظ أن المؤلف يعطي اهتماماً واضحاً لعملين روائيين، هما بيضة النعامة لرؤوف مسعد، ورواية الديناصور الأخير لفاضل العزاوي. في الأولى بنية سردية مفتتة وانكسار بالمعنى، ويحيل ذلك إلى أسئلة أثارها المؤلف وهو يتناول الرواية المذكورة، مثل: هل تخلو الرواية الجديدة من أي تصميم؟ وهل تصاغ بعيداً عن أي مبادئ أو أسس فنية أو جمالية؟ لكن الوقفة التي اهتمت بالرواية المدروسة خرجت بإجابات نقدية وضعت العمل في مكانته الفنية المناسبة، ولم تقلل من قيمة المعنى الذي جسده مضمون الرواية. لأنه في تأكيد التيه والضياع والخواء الذي يلف العالم وأيديولوجياته وأديانه ونظمه وأنساقه، يبقى الجسد، فالجسد يمكن أن يقوم بكل وظائفه الروحية والحسية، ولهذا لابد من تحرره- تحريره- من كل التقاليد والمنظومات القيمية المتعددة، لأنها تشبه السجن، إذ تسعى إلى الحرمان من استخدام الجسد، واستلاب الجسد وتعطيله قد يمهد لكسر الروح وتدميرها. فالجسد له حقوقه وللروح حقوقها، لكن حقوق الروح لا تتحقق إذا قمع الجسد.‏‏

في رواية «الديناصور الأخير» لفاضل العزاوي، ثمة لعب على الجنس الفني، حيث هي: رواية- قصيدة- حسب تعبير العزاوي نفسه. وبالفعل فإن روايته تتحرك بين النثر ولقطات من الشعر المكثف وتوظف أحياناً في بعض المشاهد، تقنيات من المسرح المعاصر. وهو ما يوحي بمحاولة التمرد على الحدود الواضحة أو شبه الواضحة المتعارف عليها في التفريق بين الأنواع الأدبية. ويشكل الوضع كثيراً حين أضاف العزاوي لعنوانه الأول عنواناً جديداً لطبعة جديدة للرواية. في الطبعة الأولى كان العنوان: الديناصور الأخير «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة» وفي الثانية أصبح الجزء الثاني من العنوان «كتاب جديد لمخلوقات فاضل العزاوي الجميلة». لا شك أن هذه الرواية موغلة في التجريب، وربما تشي بمحاكاة بعض أنماط الروايات العالمية الحديثة. وهو ما وضعها، منذ صدورها، موضع اهتمام النقاد، الذين نظروا إليها من زوايا مختلفة.‏‏

ثمة ملاحظات هامة. منها أن ظهور الرواية الجديدة، لم ينحصر في بيئة عربية محددة، بل امتد ليشمل كل البلدان العربية. ومن مزايا الرواية الجديدة رفض التقاليد الجمالية الراسية، والتمرد على المنظومات الفكرية والأيديولوجية المألوفة. وفيها غياب للبطل أو الشخصية المحورية، وتبدي حساسية خاصة تجاه الزمن، تحاول كسره أو تجميده أو نفيه، وتنهض فيها اللغة بمهمات متعددة، كالمستويات المتنوعة، واللغة المكثفة الموحية، وتجسيد المعاني.. وصهر الأساليب القديمة والحديثة، وخلق أسلوب لغوي جديد يدهش القارئ ويصدمه، وتراكيب وصور شعرية تحل حركتها الإيقاعية محل حركة السرد والأحداث.‏‏

وهي تعتمد على مبدأ عدم التوقع لدى المتلقي بدل الإيهام. وهي تتيح في أبنيتها السردية المتعددة والمتنوعة المجال واسعاً لقراءات نقدية متعددة، وربما لتأويلات متعارضة أو متناقضة.‏‏

الكتاب: أنماط الرواية‏

المؤلف: د. شكري عزيز الماضي‏

الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت.) سلسلة عالم المعرفة، العدد355، أيلول 2008(‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية