فنهرع لأول قادم غريب في محطة انتظار لنشرح له ما حبسناه زمنا.. مخافة لومة لائم أو شامت.. بتلك الرغبة من أطلق كل أشرعته وهو يكلمني عن «نسرين» كان سائق الحافلة وكنت راكبا حط به المساء لتبدأ رحلتنا المسائية بين دمشق وحمص. كانت تجتاحه موجة من النشوة والبهجة جعلت أساريره منفرجة، والفرح يخرج من أطراف أصابعه.
كانت تسكنه فلم يكد يصفها لي حتى عاد وسكنه ذلك الشيء الجميل. راجعت فكرتي عنه وتعلمت ألا أحكم من النظرة الأولى .. عندما راقبته وهو يلتقط الركاب، ويعد ببراعة نقود الأجرة يدل على خبرة في إحصاء المقاعد وما يساويه كل فراغ لديه. خرج تماما من ذلك السائق ذي الملابس المدعوكة واللحية النابتة، وقدرت حرصه لاختراع مهنة يكسب منها بعدما فقد فرص التحصيل، وكما قال لي إن رقمه التاسع من بين أحد عشر أخا.
أقول خرج نهائيا من ذلك السائق.. لأرى إنسانا شفافا يقطر حبا وحنينا، وليس كما اعتبرته ماديا لايرى سوى المال. وبعيدا عن المثل روى لي مسار قدره بكل التعاريج التي تضعها الحياة ذلك الحلم الذي كبر وقد نمشي لنهاية العالم من أجله بعد أن وصف كيف سطع ذلك الشعاع بحياته.
لو تراها كاملة من الداخل والخارج شقراء بشعر طويل وجه لايغادرني، وفجأة غزاه ذلك الانطفاء وحط من تخليقه.. بعد أن عايش أساه لأربع سنوات، وبعد أن غادرته بعد سبع سنوات من الحب. لم تتزوج وأكمل عندما انتهى كل شيء .أخذت كحولي وسجائري، وصعدت أعلى جبل قاسيون وبكيت .. وتوقفت للحظات قائلا: أستطيع البكاء الآن ..
ارتبكت وأمسكت بكتفه بحركة عفوية خبرت معنى ذلك فيما مضى.. مؤلم هذا.. لعله أشد الخسائر ألما ففي السيكولوجيا «يصنفون الخسائر العاطفية بأنها أكبر الخسائر وأفدحها لأنها تستنفد عصارة روحنا».
لا أعتقد كان يعاني على هذا النحو، لو كان يصف لي خسارة مادية أو ضياع ثروة خاصة إذا ما مر عليها أربع سنوات كما روى لي، وأكمل:
تزوجت من شاب آخر كان الجميع يعرف القصة في تلك البلدة الصغيرة.. وبعد مشاحنة كلامية بين والدي وأبناء عمها وأخوتها عندما جاؤوا لخطبتها لي بعد لم تنقطع محاولاتي، لكن خطيبها الجديد استفزني وقال:
- إن كنت تريد أخذها لامانع .. اذهب وخذها
لم يكن ممكنا البدء من جديد.
لكنني ومن كل قلبي أهديتها يوم زواجها أربع أساور ذهبية.
نظرت إليه بتقدير، ورأيت كم هو شفاف ورومانسي ، وأحسست كم لا يزال يلتمع بداخله وجه تلك العادة الجميلة، ولا أطيق سماع أنها تعاني من شيء.
سألته وأنا أحاول بنبرة من صوتي تهدئة روحي التي عادت لتنتظم في هدير الحياة الذي يسحبنا لنكمل بطريقة ما.
قلت له:
- كان لابد من قول شيء.
- الأيام أمامك ولازلت شابا ستواجه فتيات أجمل وأياما أجمل، لكن سطوة سحرها لاتزال تهيمن عليه كما يبدو، ولهذا بدأ يقتنع بكلامي.
كان المساء قد عبأ الجميع في صناديقه الغامضة.. والحافلة لاتزال تطلق دواليبها لاجتياز تلك المسافات، وقمر صيفي يرسل أشعته دوما غير عابىء بدموع صاحبي أو بفرح يتراقص في مكان آخر. أكمل كلامه وكأنه ينفي نظريتي الثابتة عند إشراقة الغد، وبأن ما يأتي هو الأجمل. قال: لا
ستبقى الأجمل حاولت الاقتراب من أخريات ولم أفلح وحاولت طردها من رأسي فتوغلت أكثر. أنه وجع الضربة الأولى فوق سندان العمر لهذا تأتي بالغة الوقع على حديثي السن.
ولكن تظل تلك الضربات على نفس الدرجة من التأثير حتى على متوسطي العمر، وربما أقوى منها لدى الشيوخ عندما يلوح له فرح قد يكون الأخير في رحلة العمر.
باغتني بسؤال من مناخ الموقف الذي نحن به: وأنت ألم تحب؟ يبدو على محياك الانشغال وكأنك ترحل بعيدا..
أجبت بإيماءة موافقة من رأسي وأنا ابتسم له: ماذا سأروي لك أيها الصديق ، ربما احتاجت روايتي طريق سفر طويل آخر، ونحن شارفنا على الوصول قبل مجييء، تركتك لتوي كيانا آخر؟ ودعته في المطار، ويتجه بطريق معاكس سيبتعد وسأحبه.. أو سأحاول طرده كما حاولت طردنسرينك ولم تفلح فجأة أمست المسافات خلفنا بعد أن كنا أمامها دائما نعيش قبل أو بعد الأشياء .. قبل أو بعد الحب، لكننا عندما نكون بداخله يستغرقنا فلا ندركه.
استعاد صديقي شجاعته بتدرج طبيعي ليكمل مهام الحياة،لابد من التماسك لمتابعة الزمن والعمل . هذا ما يسمونه الحياة شيئا فشيئا أدخل ذلك العاشق العذب بين ثنايا ملابسه وثنايا جسده، واستعاد وجوده المهني وهموم العمل والمال والمنافسة . جميعنا نفعل ذلك.. نخرج من أشواقنا وخيباتنا نحو مقود السيارة نفتح مكاتبنا وواجهات المحلات. لا أحد يستمتع بهمومه، لكننا نتحدث دوما عما يهمنا أولا.. تلك الهموم ما يبقينا بشرا.