استقبلتها ظلال بنايات حيها الموحشة، راحت ساقاها المرتبكتان تحثان الخطا. عند المنعطف انحرفت يميناً، بينما كان منزل أهلهـا الصغير يتـوارى خلفهـا مبتعـداً فـي الجهـة الأخرى.
لا تدري ما الذي دفعها إلى تلك الخدعة، لأول مرة في حياتها تكذب على صاحب المشغل، ماذا لو عرف أن أمها بصحة جيدة ولا تحتاج إلى أية مساعدة؟
وعلى الرغم من استنكارها لفعلتها، فقد أخذت خطواتها تنساب على نحو أكثر توازناً، مبتعدة عن أزقة حيها المسترخية على صفحة الزمن. حينها شعرت بأن هواجسها الهشة قد بدأت تتلاشى.
في نهاية أحد الأزقة، انفرجت زاوية المكان، فتلقفها شـارع عريض، ارتطمت بضجيج لم تألفه، أنشأت عيناها الزائغتان تتلمسان الأشياء حولها، سَرْعان ما انغمست في جاذبيتها، فتسلقت جدار الوهم، وجعلت تسرح في أفق مدينتها، هاربة من عزلتها.
إذا كان التمرد على العزلة يعد خطيئة، فهذا يغري بارتكاب المزيد من الخطايا، مر هذا الخاطر في بالها وكأنه قد ولد من رحم الحرمان.
- يا بنتي، إنتِ ماِلكْ فِكْر بالدراسة، خير مــن الله أنك وصلتِ إلــى الصـف السابع، رح أحطـك عــند عمك أبو زكي يعلمك مصلحة الخياطة.
هل كان ذلك صحيحاً؟ أم أنهم دفعوا بجسدي الصغير إلى العمل لسبب أجهله؟ كل ما أذكره أن السعادة كانت تغمرني كلما كنت أمضي برفقة صديقاتي إلى المدرسة.
منذ ذلك التاريخ، ارتحلتُ إلى عالمٍٍ لا يعترف بأشيائي المحببة، أمسيتُ أعمل كالساعة التي لا تتوقف أبداً.
راحت تنتقل من شارع إلى آخر، تحدوها مشاعر غريبة، وبينما كان التيه يتألق في عينيها. لمحت فتاة كانت تقف عند موقف الحافلات العامة، فتباطأت خطواتها، ثم ما لبثت أن تلاشت على بعد أمتارٍ قليلة منها. استرعى انتباهها ما تحمله في يدها اليمنى، إنه كتاب. إحساسٌ دافق راح يشدها إليه، لشد ما حنت إلى احتضانه ومداعبته وامتلاك معانيه.
- يا ِبنْتي، إنتِ ماِلكْ فِكْر بالدراسة.
الفتاة الغامضة تقترب منها، تلوح فـي عينيهـا نظـرات ذات معنـى، بينمـا كان بصـر سماح مسمراً في عمق الفراغ، وعلى حين غرة من ذهولها داهمتها بنبرة مباشرة لا تخلو من ود:
- ماذا تفعلين؟
- لا شيء.
- إلى أين أنتِ ذاهبة؟
- لا أعرف.
- إذن اتبعيني!
اندفعتْ خلفها وهي مأخوذة بسحر إيحاءات لا طاقة لها على صدها.
في الحافلة، جلست بجـوارها تطغى عليها مشاعر الغبطة، بينما كانت عيناها التائهتان تتابعان مفردات مدينتها التي تقتحمها للمرة الأولى بمفردها. تراءت لها مصبوغة بألوان زاهية متجددة، كنشوة ربيع دافقة، كأن المدينة تتعرى لتبرز مفاتنها، كما تتعرى الأنثى لزوجها في ليلة زفافها.
- يا أم عزيز، إنتِ عندك ثلاث بنات حلوين، الله يفرحك فِيّنْ، الِكبيرة نصيبها على الباب، والصغيرة مدللة وذكية، والوسطانية مسعدة وحظها قوي.
أصابت فتاحة الفال، فها هي أختي الكبيرة تنعم بحياة دافئة مع زوجها وأولادها، بينما تتابع أختي الصغيرة تعليمها.
ولكن أين أنتِ من هذا يا سماح،؟ أين السعد والحظ اللذان تنبأت بهما تلك العرافة العجوز؟
اختلست نظرة من طرف عينيها، فوجدتها منشغلة بالكتاب المسترخي بين يديها، غير مكترثة بها، فتساءلت في حيرة:
“ لم طلبت مني أن أتبعها؟، وما الجهة التي تقودني إليها؟ “
يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة، أجد أنفاسك قد أدمنت نسائم القبو العفنة، وباتت زواياه المظلمة ملاذاً لأحلامك.
صحيح أنك أتقنت أفانين العمل وأصبحت صانعة ماهرة، ولكنك لم تعودي قادرة على إجادة أي فعل آخر.
ست سنوات، وكأنها دهرٌ بأكمله.
هناك، شعرت بالرهبة، ثم بالدهشة، فتلونت، وتحيرت، ثم ما لبثت الألفة أن تسربت إليها، حين تخيلت أن الجينز الأسود والقميص الأبيض اللذين يستران جسدها قادران على جعلها تبدو كالأخريات.
ركزت بصرها، فوجدت الفتاة الأخرى قد ابتعدت عنها، فسارعت الخطا، وأنشأت تطاردها بعاطفةٍ مفعمة بالحبور، تراءت لها كأنها تعبر البوابة الكبيرة، تجتاز البهو الواسع، تصعد السلالم، تلج إحدى القاعات، فاندفعت بجوارحها كلها، وكأنها تسعى إلى طي الأعوام الستة، وتذويبها في هذه اللحظة النادرة.
حينما أوصد الباب خلفها، داهمتها مشاعر الرهبة ثانية، بحثت عن فتاتها، لم تجدها، فقد غابت في زحمة المكان.
ما هي إلا لحظات قليلة حتى هدأت الجلبة، دون تفكير انقاد جسدها ليقبع على أحد مدرجات الجامعة كالآخرين والأخريات، في حين كانت نبضات الخوف والارتباك تعربد في عروقها، غير أن سحر المكان جعل شيئاً من الطمأنينة والسكينة يتسلل إلى فؤادها.
هل بوسع مظهرك الخارجي أن يقيك ِ يا سماح؟
ماذا لو اكتشفوا أن عقلك خاو ٍ وغريب عن هذا المكان؟
فجأة أشار إليها الرجل الوقور الذي يستوي بمفرده في صـدر القاعة أن تقف لتجيب عن سؤاله:
تلفتت حولها، تبين لها أن الأبصار كلها محدقة بها، إذن فهي المقصودة.
همت بالنهوض، لم تفلح، حاولت ثانية، دونما جدوى، إذ خانتها الأرض التي أخذت تهتز تحت قدميها الواهنتين.
صعقتها المفاجأة، لم تع ما طلب منها، كانت تدرك أنه يتعين عليها أن تقول شيئاً ما، أي شيء، حتى لو كانت همهماتٍ بلا معنى.
كيف لها أن تنجو الآن من هذا الفخ الذي نصبته لنفسها بنفسها،؟ خطر في بالها أن تقول له إن اسمها: سماح، لعله يسامحها.
فجأة.. هب الفتى الذي يجلس بجوارها واقفاً، وهتف بكلمات غسلت بلادتها في لحظة:
- دكتور، هذه الطالبة من كلية أخرى، هي مجرد زائرة.
أومأ لها الدكتور بالجلوس مبتسماً.
تراءى لها هذا الشاب مثل ملاك هبط من السماء، تطلعت إليه بعينين يلتمع فيهما فيض من علامات الامتنان والعرفان، إلا أنها وجدته مشغولاً بالخطبة التي يلقيها الرجل الوقور.
ارتد طرفها ليستقر في أفق هواجسها، بهتت حينما لمحت فتاة تقف قبالة السبورة، أنعمت النظر، إنها تشبهها، ترتدي الجينز الأسود نفسه والقميص الأبيض أيضاً، راحت تفرغ الأجوبة بمهارة فائقة وثقة متناهية.
ما إن انتهت حتى طلب الدكتور من الطلبة أن يبادروا بالتصفيق لها.
في قمة النشوة، تناهى إلى سمعها صوت صديقتها:
- سماح، هيا بنا، لم يبق غيرنا في المشغل.
التفتت نحوها، وفي عمق عينيها كان يتلامح مزيج غير يسير من الذهول والاندهاش.
كررت صديقتها:
- هيا سماح، تأخرنا.
أجابتها بصوت يكاد يكون همساً:
- طيب، يا الله.
حينما خفتت هتافات المديح والإطراء، كانت نفسها ما تزال تسمو، ترفرف في نشوة الخيال، على أن إشاراتٍ غامضة شرعت تقتحم خلجات صدرها، فشعرت أن أقدارها قد تشابكت في تلك اللحظات، وأن روحها أخذت تفقد ارتعاشاتها، وكأنها تؤول إلى نهاياتها، ما أوجع أن تغدو نهايات الأشياء وهماً بلا معنى.
ماذا يفعل المرء إذ هجرته الأحلام، وسكنته الوساوس والظنون؟
صوت صديقتها يناديها من جديد:
- سماح، لقد تأخرت كثيراً، إذا لم تتحركي سأغادر بمفردي.
ستمضي بمفردها، هذا يعني أنني سأبقى وحيدة.
حينهـا ارتدت إلـى ذاتهـا، إلى عالمهـا الصغير، نهضت بتثاقل، راحـت خطـواتها الواهنة تلملم شتات أفكارها وعواطفها المتناثرة في عتمة المكان، توقفت أمام بوابة المشغل الزجاجية، أطلقت بصرها، فوجدت ظلها الباهت يتوارى خلف خيالات منكسرة، أحاطت رأسها المتعب بمنديلها الرمادي السميك، ربطته بإحكام، لعله يستطيع أن يحافظ ولو على جزءٍ يسير من أحلامها الصغيرة.
ألقت ابتسامة هازئة، ومضت.
عند المنعطف، انقادت يساراً، منقلبة إلى أهلها، غير أن شيئاً ما في داخلها لم يعد يخشى مواجهة عزلتها، فهي لم تعد تطيق تلك الأنشودة البليدة التي تجوب أعماق نفسها:
- يا بنتي ، أنتِ مالك فكر بالدراسة!