محط اهتمامهم واستلهامهم، رغم ما لحقها من حداثة معماريّة وتنظيميّة هجينة، أساءت إلى بكورتها وجمالها الطبيعي والتاريخي.
تقع )معلولا( على مسافة 55 كم إلى الشمال الشرقي من دمشق، وهي أغرب قرى جبال القلمون موقعاً ومنظراً، وكل زاوية فيها تروي حكاية وأسطورة، ولغة أهلها تثير في النفس شعوراً خاصاً من المهابة، إذ كانت اللغة التي تكلم بها السيد المسيح، وهذه اللغة انقرضت من كل العالم إلا من ثلاث قرى سوريّة متجاورة هي: معلولا، جبعدين،
ونجعة.
ملهمة الفنانين
شكّل النسيج العمراني لهذه البلدة، ومحيطها الطبيعي النادر والفريد، مادة غنيّة وشهيّة، للفنانين التشكيليين السوريين، على اختلاف الأدوات والوسائل التعبيريّة التي يشتغلون عليها، ولا تزال حاضرة، بهذا الشكل أو ذاك، في نتاجاتهم الإبداعيّة، رغم ما لحق بعمارتها من تلفيق وتشويه أساء إلى عمارتها القديمة الشديدة الوقع في الروح والإحساس، لبساطتها وعفويتها وتآلفها المدهش مع محيطها الطبيعي، لا سيما التشكيلات الصخريّة العجيبة المحيطة ببيوتها كما تحيط الأم الحنون بطفلها.
لم يقتصر الاهتمام بهذه البلدة على الفنانين التشكيليين، وإنما شمل أيضاً المصورين الضوئيين الهواة الباحثين عن مادة مناسبة لعدساتهم، فكانت (معلولا) أو نسيجها العمراني والطبيعي والاجتماعي (إضافة إلى تاريخها الموغل في القدم) هذه المادة، حيث أشبعوها رصداً وتصويراً، وأقيمت لها، معارض عديدة داخل سورية وخارجها، كما صدر حولها مجموعة من الكتب أخرها وأهمها الكتاب المصور (معلولا ... ذاكرة الصخر والإنسان) للفنان الضوئي السوري المتميز (فرج شماس) الذي أمضى في الإعداد له وإنجازه، سنوات عديدة، تُوجت بهذا الكتاب المتقن تصويراً ونصاً وطباعة وإخراجاً والموضوع باللغتين: العربيّة والإنكليزيّة.
الكتاب الذي يقع في 370 صفحة من القطع الكبير. يتألف من تقديم للفنان شماس، وافتتاحية للمكتب الإعلامي البطريركي للروم الملكيين الكاثوليك، واستهلال للأب طلال امطانيوس المخلّصي، وتصدير لكاتب هذه المادة، ثم وقفة مطولة مع (معلولا) شملت تسميتها وتاريخها ووصفها والحياة فيها.
ضم الكتاب 290 صورة ضوئية مختلفة الحجوم، منها 193 صورة ملونة، و97 بالأبيض والأسود، توزعت على مشاهد عامة للبلدة ومعالمها المعماريّة والطبيعيّة، وعلى مظاهر الحياة اليوميّة لسكانها، وعلى أديرتها وكنائسها ومساجدها، ثم تناولت الصور ذاكرة الصخر في معلولا، وذاكرة الإنسان، ومعلولا والفن التشكيلي، وتوقف الكتاب عند بعض النصوص الأدبية المواكبة للصور الضوئيّة، أو المستوحاة منها.
معلولا في الفن التشكيلي
لاقت (معلولا) من الفنان التشكيلي السوري وضيوفه من العرب والأجانب، اهتماماً ملحوظاً، بحيث صار معروفاً عنها بأنها (ملهمة الفنانين) لكثرة ما قاموا بزيارتها وتأملها ورسمها، يدفعهم إلى ذلك، التناغم الفريد الذي يتمتع به نسيجها العمراني مع المحيط الطبيعي الناهض فيه. فإذا ما استثنينا الكثير من الفنانين القدامى ورسامي الأيقونات المعروفين منهم والمجهولين، فإن أول من تناول هذه البلدة في أعمالهم، الفنانون الرواد، وفي طليعتهم يأتي المصور (نصير شورى) الذي زار البلدة بصحبة الفنان اللبناني الرائد (صليبا الدويهي) في أربعينيات القرن الماضي، ولمس فيها الكثير من اللمحات الفنيّة، ونقلها إلى زملائه الذين تقاطروا إليها، وسطروا معها حكايات خالدة من العشق، ترجموها إلى لوحات فنيّة بالألوان الزيتية والمائيّة والخطوط، تُشكّل الآن، ملحماً مهماً وجميلاً، من التصوير السوري المعاصر. من الفنانين الذين سحرتهم معلولا نذكر: لؤي كيالي، رشاد مصطفى، فاتح المدرس، ميشيل كرشة، ميلاد الشايب (وهو ابن البلدة)، ممدوح قشلان، عبد المنان شما، غازي الخالدي، جورج جنورة، خليل عكاري ... وغيرهم.
فرج شماس
مؤلف ومصوّر وناشر كتاب (معلولا ... ذاكرة الصخر والإنسان) فرج شماس، من المصورين الضوئيين السوريين المتميزين. بدأ رحلته مع هذا الفن العام 1980، وهو عضو نادي فن التصوير الضوئي السوري، والاتحاد الدولي لفن التصوير الضوئي (فياب FIAP). له مشاركات دائمة في المعارض الجماعيّة والدوريّة، ونالت أعماله العديد من الجوائز. أما المعارض الفرديّة التي أقامها داخل سورية وخارجها فهي خمسة، آخرها في صالة متحف دمشق الوطني بدمشق، الذي قام خلاله، بتوقيع كتابه (معلولا ... ذاكرة الصخر والإنسان) والمعرض منتخبات من صور الكتاب.
انتخاب وتعشيب
الصورة الضوئيّة التي ينجزها الفنان فرج شماس، لا تتبدى في العادة إلا لفنان يعلم جيداً، ماذا يريد، وكيف يأخذ هذا الذي يريده: في أي وقت، ومن أية زاوية، يعكف بعدها على تعشيبها، فيحذف منها الضار وغير المفيد للشكل والمضمون والتعبير، وصولاً إلى الصيغة المثلى التي تشعره باكتمال المهمة وحسن إنجازها، وهو ما يؤكد وجود عين فنان حقيقي، خلف هذه العدسة التي يتحكم بها ويديرها ببراعة المحترف المتمكن من أدواته، الواثق من خبراته المتماهية بحس الهاوي المتفاعل مع موضوعه حتى درجة العشق والتلاشي.
فالفنان فرج شماس، وبحسٍ نقي، وبرؤية نظيفة، وفهم عميق، لمكونات المشهد البصري، يستل منه اللقطة التي يريد، وبالمواصفات التشكيليّة والتعبيريّة الرفيعة والعاليّة التي ترفعها إلى مصاف اللوحة، ما يجيز لنا القول أن ما ينجزه الفنان شماس، ليس مجرد (صورة ضوئيّة) وإنما هو (لوحة ضوئيّة) بكل ما تحمل هذه العبارة من دلالات فنيّة رفيعة، وهو ما يؤكد قدرة فن التصوير الضوئي على التشكيل والتعبير والإبداع، إذا ما توفرت له الموهبة المشفوعة بالخبرة، والقدرة المعجونة بالمحبة، والهاجس المسكون بالابتكار.
مادة مطلوبة
هذا النوع من النتاجات الفنيّة الضوئيّة الرفيعة المستوى شكلاً ومضموناً، أصبحت اليوم مادة مطلوبة بإلحاح، لأكثر من مجال في حياتنا المعاصرة، لا سيما الإعلام المقروء والمُشاهد، والإعلان، وفنون الكتاب ... وغيرها.
صحيح أن مجال التعبير قد يكون أوسع وأسهل أمام مزاولي ضروب الإبداع الكلاسيكي التقليدي، أكثر منه أمام المصور الضوئي الذي يضطر، في أحايين كثيرة، لانفاق الساعات الطوال لاقتناص لقطة معبرة وناجحة، غير أن التطور المدهش للوسائل التي يشتغل عليها وفرت له إمكانيات كبيرة، للتغلب على المعوقات والصعوبات التي تعترضه، في عملية الخلق والإبداع ، وبالتالي التعبير بحرية عما يريد، وبصيغة متطورة.
على هذا الأساس، يجب على المصور الضوئي الطامح للخروج بعمل فني متميز جمالياً وتعبيرياً، بذل جهد خاص ومتابعة دؤوبة، وبحث دائم ومفتوح، وعشق صادق لموضوعه وأدوات تعبيره، ذلك لأن (الصورة الضوئيّة) مثلها مثل أي عمل إبداعي آخر، سلاح وحقيقة تجسد الواقع، وتجنح في الوقت نفسه، باتجاه الحلم. وعندما تتوحد (الكاميرا) مع (الإبداع) و(الحس الفطري) مع (الموهبة) و(الخبرة) مع (الصدق) تخرج (اللوحة الضوئيّة) الفنية المعبرة.
في كتابه (معلولا ذاكرة الصخر والإنسان) يكرس فرج شماس، هذا النوع من (الفنانين الضوئيين) الذين يتفانون للخروج بلقطة ضوئية تتماهى فيها الحرفة المُتقنة، والفنيّة العالية، وصولاً إلى حالة تعبيرية قادرة على معادلة ألف كلمة مكتوبة أو منطوقة، واضحة ومؤثرة ولا تحتاج إلى ترجمة أو شرح، وإنما تتسرب بيسر وسهولة، إلى بصر المتلقي، أينما كان فوق هذا الكوكب، ومهما كانت لغته وثقافته، ومن ثم إلى بصيرته وإحساسه، مقدمةً لهذه الحواس مجتمعة، وليمة معرفيّة وجماليّة متاحة التناول وسلسلة الأخذ.
جهد متميز
لقد جهد الفنان فرج شماس، في تجميع المادة البصريّة لكتابه الهام والجميل هذا. زار (معلولا) مرات عديدة، وفي أوقات وفصول مختلفة. رصد ناسها وبيوتها ومطارحها وصخورها وبساتينها، وفي لحظات تجلٍ معينة، أوقف الزمن في هذه اللحظات الساحرة التي يكتنز عليها كتابه، بعد أن اشتغل عليها طويلاً، في مختبره الدمشقي، مُستلاً منها المشوش وغير المفيد، من العناصر والأشياء التي أقحمها الإنسان في غير مكانها، ما خلق وجودها، حالة شاذة أضعفت جماليات المشهد، وقللت من قوته التعبيريّة الواقعيّة، وأساءت إلى دلالاته التاريخيّة والحضاريّة التي تفردت بها، عاشقة الصخر، وطفلة التاريخ، وملهمة الفن والفنانين (معلولا)!!
بمعنى آخر: لم يكتف الفنان شماس المأخوذ بفنه، المحب لموضوعات هذا الفن، برصد ومراقبة وانتخاب موضوع صور كتابه هذا، وإنما لجأ إلى إخضاعها لعملية انتخاب ثانية، أجراها في مختبره، مدفوعاً بهاجس تحقيق أقصى ما يمكن من القيم الجماليّة والتعبيريّة فيها، دون المساس بالقيمة الواقعيّة للمشهد، أو الإساءة إلى الجانب التوثيقي فيه، ما خلق حالة لافتة من التفاعل الخلاق، بين هذه القيم مجتمعة، أفضت في النهاية، إلى هذا المنجز البصري الذي يقول الكثير، عن معلولا ذاكرة الصخر والتاريخ والإنسان.