تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نيتشــه.. الفيلسوف المقنّع

ملحق ثقافي
19/5/2009م
خضر الآغا

عندما كتب نيتشه كتابه الأول «ميلاد المأساة من روح الموسيقا» قال في رسالة إلى صديق: «أخاف ألا يقرأ علماء اللغة ذلك الكتاب لما فيه من موسيقا،

وألا يقرأه الموسيقيون لما فيه من علم لغة، وألا يقرأه الفلاسفة لما فيه من موسيقا وعلم لغة». وبهذا يكون وضع نفسه منذ البداية في ذلك المكان الهامشي بالنسبة إلى معارف عصره، لكنه، في الوقت ذاته، بسبب من هذه الهامشية ربما، كان في المتن من تلك المعارف كلها.‏

هامشية نيتشه ومتنه يختلفان عن كتاب عصره جميعهم، فقد وقف من معارفهم موقف الضد، ليس وقوف الذي ينقد، بل الذي ينقض، ليس ذلك الذي يقدم وجة نظر ويطلب من الآخرين مناقشتها، بل ذلك الذي يقرر ويأمر البشرية أن تتغير وفق ما يريد هو لا ما تريد البشرية أو كتّابها. إن هامشيته تلك جعلته متحرراً مما يفرضه المتن من نظام في التفكير وفي التوجه، جعلته يستطيع أن يؤسس متنه الخاص، مطالباً القارئ، إرغامياً، أن يمتثل!‏

إن الانطباع الذي يتركه نيتشه عنه لدى القارئ واحد: إنه خطر، جبار، ومعتوه... لكن قوته التي لا تضاهى سرعان ما تؤثر على هذا القارئ- الآن، كما أثرت فيه منذ أكثر من قرن- وتجعله يتمنى / أو يعمل على أن يكون هكذا: خطراً، جباراً، ومعتوهاً أيضاً. إذ إن ما يطلبه نيتشه من القارئ، هو ذاته ما يطلبه من الكاتب، ومن القارئ: أن يكون فوق – إنسان، سوبر – إنسان: «اكتب بدمك: وستعرف أن الدم روح / ليس سهلاً أن يفهم المرء دماً غريباً: إنني أكره القراء التفهاء» بعبارة أخرى: أن يكون كل إنسان نيتشه، وما لم يكن هكذا، فإنه -نيتشه- يعنفه عبر صياغات محكمة، مشحونة بالمعرفة، وحادة على نحو صفيق. وإذ إنه رأى عصره كله ليس نيتشوياً، فقد وقف قبالته وضده على نحو مطلق: «كل من يريد أن يكون مبدعاً في الخير وفي الشر، عليه أن يكون أولاً مدمراً، وأن يحطم القيم / كذا هو الشر الأعظم جزء من الخير الأعظم: لكن ذلك هو الخلق»، إلا إن ذلك العصر انتقم منه على نحو شديد القسوة: سبب له انهياراً عقلياً كاملاً، رافقه إحدى عشرة سنة، إلى أن توفي سنة 1900، ذلك العقل الذي واجه الثقافة الأوروبية بكامل قوتها وجبروتها وحداثيتها، وأسس، لوحده، ما أطلق عليه جيل دولوز: فجر ثقافة مضادة.‏

نيتشه الناثر العظيم لا يختلف عن نيتشه الشاعر، ولا يمكن الحديث عن نثره بشكل منفصل عن شعره، ولا يمكن، في السياق ذاته، الحديث عن ذلك دون الحديث عن كونه فيلسوفاً وفيلولوجياً... إذ إن تعدده شبيه بتعدد العروق في اليد، فكل عرق لا يشكل يداً، ولا يد دون عروق... كذا نيتشه، فهو الشاعر والعالم والفيلسوف والفيلولوجي، دون أن يكون أي واحد من كل هؤلاء كما يوضح دريدا. لكن الشكل الذي يوحد بين هؤلاء جميعاً هو «النبذة».‏

إن «النبذة»، وهي الشكل الذي ابتكره، أساساً، للقول النثري، يشمل كتاباته الشعرية أيضاً. يقول: «إن أسلوبي عبارة عن رقصة، إذ إنه يلعب بكل أنواع التماثلات، غير أنه بقفزة واحدة يتجاوزها ويسخر منها. إن هذا يحدث حتى بالنسبة لحروف العلة». إن هذه النبذة، والتي تسمى: «التعريف» أو «التفسير» أيضاً، أتاحت لنيتشه أن يكون حراً في تنقلاته العديدة على مستوى المعرفة، وحراً في أن يكون متعدداً لدرجة متعبة، ومتناقضاً إلى الحد المحير، أتاحت له، كذلك، أن يقول ما عجز عنه التفكير الفلسفي النسقي. هذه الحال الفلسفية منحته وضعية متميزة داخل الفلسفة المعاصرة، لكنها هامشية بالنسبة للفلسفات الأخرى، وهذه الحال انطبقت، أيضاً، على وضعيته الشعرية، إذ اصطبغ الشعر لدية بالبعد الفلسفي المضاد، فاتخذ وضعية شعرية هامشية بالنسبة إلى الشعراء الذين يولون بنية القصيدة شأناً كبيراً. هذه الهامشية في الشعر والفلسفة والمعارف الأخرى، ولشدة تأثيرها، تحولت إلى طموح الشعراء والفلاسفة والمفكرين خلال وقت قصير من ظهورها.‏

بالإضافة إلى ذلك، فإن النبذة أتاحت له، إضافة إلى حرية القول، حرية أخرى تتمثل في جعل اللغة هي الفكر ذاته وليست أداة له، فاتخذت النبذة شكل الجسد الذي يتكلم بالاستعارات والمجازات، فالنص النيتشوي يحفر في طبقات اللغة الكثيفة، فيكشف عن غابة من الاستعارات التي بدت، لكثرة استخدامها، على أنها حقائق، وتم التعامل معها على أنها حقائق ثابتة، فقام نيتشه بفضحها، ليكشف، عبر ذلك، أمرين: البؤس الفلسفي الذي كان سائداً في عصره والعصور السابقة والذي تميز بالزيف من حيث أن الحقائق المزعومة ليست إلا استعارات جافة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الشعر والمعرفة والفلسفة والفكر... ليس إلا لغة بكل ما تحمله من استعارات، لذلك فإن معرفتها تتطلب معرفة اللغة ذاتها...‏

كما أتاحت له النبذة، أيضاً، أن يمارس الدور المعرفي والشعري الأثير لديه وهو التخفي، يقول: «إني أكثر تخفياً من جميع المتخفين» فـ «كل ما هو عميق يحب القناع». لقد كان شاعراً متخفياً في الفلسفة، وفيلسوفاً متخفياً في الشعر، وفيلولوجياً متخفياً في العالِم، وعالماً متخفياً في الفيلولوجيا، وهكذا... لقد أتاحت له النبذة أن يكون إذاً «الفيلسوف المقنع». إذ إن «النبذة» صاحبة الفضل في ابتكار جسد الكتابة النيتشوي الذي قصده عبر دعوته للكتابة بالدم. فالشاعر والفيلسوف والعالم والفيلولوجي هي أعضاء في ذات الجسد. (أذكر هنا أن أصل الجسد في اللغة الفرنسية(corps) هو المتن (corpus) فالمتن والجسد، كما يقول عبد الكبير الخطيبي، كل منهما يسكن الآخر ويؤسسه. ومن هنا مصدر الحديث عن الجسد المكتوب).‏

هذه النبذة هي القناع الذي ابتكره نيتشه ليتقنّع به، وينهال على قيم عصره والعصور السابقة، وعلى المعارف التي أسست لتلك القيم التي جعلت، وفق رأيه، من الضعفاء والهمج والعبيد... يكنسون المراحل والعصور التي سادت فيها الارستقراطية والنبالة، ويتسيدون العالم مكرسين أكثر الظواهر التاريخية وضاعة، وهي أخلاق العبيد.‏

لهذ تبدو الصعوبة في فهم النص النيتشوي مضاعفة أكثر من مرة: فهو نبذة من جهة، وهو استعارات من جهة أخرى، ومشحون ببعد فلسفي مضاد من جهة ثالثة، فهو كان صعباً عند ظهوره، ولم يزل، بعد أكثر من ألف سنة، يحتفظ بقدر كبير من تلك الصعوبة. لقد كان نيتشه يعي ذلك، وقد قدر أنه لن يُفهم إلا مع الألف الثالثة. يقول عن صعوبته: “إن شكل النبذة التي صيغت به كتاباتي يشكو من بعض الصعوبة، لكن ذلك يأتي من أن الناس لا يأخذون هذه الصيغة اليوم على محمل الجد. فالنبذة(...) لا تنحل رموزها بمحض قراءتها، فالأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير، إذ إن التأويل يكون عندئذ قد بدأ، وهناك فن في التأويل”. فقارئه قارئ من طراز خاص كما يعرّفه. في المقطع التالي يتضح من هو القارئ الذي يمكنه فهم نيتشه، ومن هو القارئ الجيد بصفة عامة، يقول فيه: “فكٌّ جيد ومعدةٌ جيدة / هذا ما أرجوه لك!‍‍ / وحين تكون هضمت كتابي، حينها / تكون على اتفاق معي!”. إنه أمر غريب أن يطلب من القارئ فكاً ومعدة وعملية هضم، لكن الغرابة تزول حين نربط بين هذا وبين الشرط الذي يضعه لرفع القراءة إلى مستوى يجعلها فناً من الفنون. وهذا الشرط هو: “أن يملك المرء قبل كل شيء تلك الملكة التي طمسها النسيان(...) والتي تقتضي أن يكون للمرء طبيعة كطبيعة البقرة، ولا تكون له طبيعة الإنسان الحديث، وأعني بها ملكة الاجترار”. على القارئ – البقرة إذاً، أن يكون فخوراً بكونه بقرة (كذا؟) وأن يجتر الكتابة اجتراراً لا يتوقف حتى تنحل رموزها كافة. إذاك، يستطيع فهم الكتابة عامة وكتابة نيتشه خاصة، وإذاك، ترتقي القراءة إلى المستوى الذي يجعلها فناً.‏

ثمة في كتابات نيتشة تمجيد لا ينفك يتقدم للقوة، لإرادة القوة، للإنسان – السوبر.‏

***‏

إن موقفه من اللغة والكتابة والقراءة والفلسفة والعلم والحداثة وغيرها الكثير... جعل كتاب ما بعد الحداثة يعتبرونه الجذر العميق لفلسفتهم، كما هو معروف.‏

تعليقات الزوار

محمد العلي |    | 20/05/2009 22:06

هام جدا هذا الكلام شكرا يا أستاذ خضر الآغا

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية