بين ما ورد في الرواية المستهَل لها بالملاحظة تلك أو شبهها، من أحداث ووقائع وتصرفات شخصيات تتمثلها أو تكون مهابط أو مرتقيات، لها قيمة ذوقيةً واعتبارية، لئلا يحاول القارئ التفكير في الشخصية، أي شخصية وظلالها الواقعية حتى ولو بنسبة معينة، وإنما يكتفي بقراءة الرواية بوصفها رواية!
أظن أن في التنويه هذا، يكمن الكثير من المراءات والتفخيخ لذات المعنى، إلى درجة أن العملية صارت عند البعض من هؤلاء دُرجة، كما لو أن تأكيداً معبرياً كهذا، يضفي على العمل الأدبي: الروائي، سريان الفعل الإبداعي دفعة واحدة، أو خاصيته الفنية الجليلة حصرياً، وذلك من العيار الثقيل، وما في ذلك من تصور ينطوي على توهم في الأصل والرهان على الأصل المقرَّر دون مراجعة، في مسعى حثيث بوعي أو من دون وعي لضبط متخيَّل القارئ وأفكاره، وحتى تاريخه الثقافي والجغرافي والإنسي وسواه، للحيلولة دون شططه أو خبطه، وإنما التركيز على الرواية على أنها صنيعة الروائي، والتحليق مع متحلقه الخيالي إلى الأعلى، كما هو مقتضى التوجه الأدبي الضمني، ومطاردة أطياف الشخصيات، وليس الهبوط بها على الأرض نهاية مطافها..!
وهذا الخطف العلني، أو في وضح النهار، والذي يتم تحريره بعيداً عن وطأة الشعور بالذنب، أو الحساسية الأخلاقية النافلة، لشخصيات ماثلة أمام النظر، والمدى المجدي لها في التمثيل القيمومي لأحداث وظواهر وليس حالات مسماة، دون نسيان تدفق نهر الوقائع ذات الرموز الفاصلة تاريخياً، حتى في أكثرها اعتباراً طفرة المتخيَّل، من الصعب إن لم يكن مستحيلاً الإصغاء إلى صوته، دون أن يؤخَذ ما ينشغل به الروائي بعين الاعتبار على أنه هرطوقي أولاً وأخيراً، أي ناشد نموذجه المأخوذ باسمه، إنما في ضوء عالمه الذي يرفده بأسباب البقاء.
لهذا هل حقاً عندما يريد الكاتب الروائي البدء بكتابة نص روائي يحلّق عالياً، أم يعلّق صوره الهلامية في نطاق أكثر تخمة بالحياة لواقع لا يفارق عالمه النفسي ؟ إذ يبحث عن نماذج عاشها أو سمع بها، لتكون بمثابة الطعم للقارئ أي قارئ، حتى لو كان خارج مجتمعه، خارج دائرة لغته، واستدراجه إلى مهاده المجتمعي المكتظ بالوجوه والمسلكيات” المتلاطمة” إن جاز التعبير، وإمعان النظر في الأكثر قابلية لربطها بالمقروء الروائي؟
تنحية الشخص كرمى الشخصية واقعاً
لنقل ثمة لعبة قائمة بين الكاتب ونفسه، تخص ما يقدِم على كتابته، اختزالاً وارتحالاً صوب مختلف ٍينسبه إليه!
وهذه اللعبة الروائية الطابع لا يمكن لها أن تكون لعبة روائية، إلا لأن الخيال جناحاها اللذان يحلقان بها عالياً، وكون الخيال ذاته عنصراً داعماً للمعيش اليومي، فلا يكون الفصل في الحالة هذه إلا إجرائياً في المجمل، حيث يعمد الروائي إلى النظر فيما يجري ميكروسكوبياً، ليكون في مقدوره إنجاز عمله، أو إتمام اللعبة: إبرام الصفقة الخاصة به، وليتمكن تالياً من جذب القارئ ليستخدم ميكروسكوبه القرائي في استقصاء حركية اللعبة التي تشمل عالم الرواية، إلى جانب إبقاء اللعبة أكثر من كونها لعبة بالاسم، أكثر من كونها أسماء يمكن العثور على نماذجها.
وفي هذا السياق يكون نوع من التجاذب والتحارب الضمنيين بين كل من الروائي والقارئ، في محاولة استكناه حدود العلاقة بين المعتبر واقعاً، والمتشكَّل خيالاً، وكيفية فك الارتباط بينهما، ليكون للتذوق الفني حضوره!
ولكن لماذا هذا اللجوء والتنويه الذي يسبق قراءة نص الرواية، أي على أن الرواية هذه أو تلك، هي خيالية بأحداثها وشخصياتها، وأن لا صلة بينها وبين أي اسم أو خلافه يمكن أن يتطابق مع المقروء النصي؟
هل يمكن/ يجوز أن نقول أمام سليم الحواس بأن الذي يراه هو أبيض، وهو لا يحتاج ذلك؟ المصاب بعمى الألوان يمكن أن يسمع قولاً كهذا، أما في الحالة السليمة حسياً، فثمة إجهاز ٌنفسي، من نوع إيحائي على خاصية التركيز العقلية في ميسمها الجغرافي الطابع، على أن الذي يتعرف إليه القارئ جغرافيا أخرى، مركَّبة، ولا يظنن أن ما يقرأه يمثل نمطاً سِيرياً حياتياً، حتى لو تلمس تطابقاً بنسبة ما بين الروائي ونصه، وضرورة التهيؤ للقراءة منذ البداية بالطريقة التي تحرره من أسريات الواقع، وتعريفه الضيق مكانياً، كما لو أن التنويه هذا، أشبه بدليل عمل، بمرشد تربوي ما، لئلا يجنح بتفكيره خارج سياق المقروء. أليس في توجه كهذا حالة نفضة لا تليق بالنص في حصافته؟ إجراءٌ لا أظنه بمنجىً من لوثة تعمد، من سعي ملح ٍّ لحثّ القارئ على أن يفكر فيما لم يكن يفكر فيه لو أن التنويه لم يكن موجوداً، كما لو أن طعماً ما يتصدر الرواية، أن غواية ما تستدرجه، وتوقظ فيه شهية القراءة الأخرى، أي التربص بالكلمة المسطورة، كونها واشية بسرّّ يخص الحياة الشخصية للروائي، وذلك لا يتم إلا بقراءة دقيقة للرواية كاملة، وعلى طريقة: ولا تقربا هذه الشجرة..! إنها خطيئة القارئ المرتقبة من منظور آخر، خطيئة التسمية لتلحَق بها خطيئة الاكتشاف للذات أكثر.
يمكن هنا أن أسمّي أكثر مَن تطرَّق إلى ذلك بالتفصيل، وهو الأكثر حضوراً بالشخصيات التي تمثل جذاذات وقائع متلاصقة تكوّن صورة تقريبية له واقعاً، وأعني به جبرا إبراهيم جبرا، فهو يشير في تنويه طويل نسبياً، وفي روايته( صيادون في شارع ضيق)، إلى ( أن ليس بين الشخصيات من هو مستند على أشخاص حقيقيين، وليس هناك أيما تشابه بين الراوي جميل فران والمؤلف...الخ)، أما في ( السفينة) فثمة وضوح قطعي جلي، كما في( الشخصيات والأسماء في هذه الرواية من خلق الخيال..)، وفي( البحث عن وليد مسعود)، يأتي التنويه هكذا( هذه الرواية من خلق الخيال...)، ...الخ، ليبقى السؤال المحوري عالقاً: ما الداعي إلى هذا التكرار؟ أليس هو التنويه من باب التوجيه، وليرفّه عن نفسه الشغوفة باسمها بزائدة كهذه، حيث لا أظنها تخلو من الألم التعزيزي لذات الروائي في العمق، ذات تغالب في تخفّيها ما يطوف على سطح نصه، إن راعينا تفجر الذات الواحدة في مقام غواياتها في سرّيها وعلنيّها، وأعني بذلك لإضفاء صفة قرائية مضاعفة، وفي الوقت ذاته لأن فتنة السيرة الذاتية الفاعلة في خافيته لها حضور إغوائي بين جنبيه، وإلا لما كان هذا الرصد المتنقل من رواية لأخرى( في عدة روايات)، أي على أن الذي يشير إليه هو في صلب مهام القارئ، لاستشراف جوانب مختلفة من العالم الفعلي لجبرا، عالم مسكون ، مثلما هو معذَّب به( للمزيد، انظر ما قام به ولات محمد تحليلياً، في كتابه( دلالات النص الآخر في عالم جبرا إبراهيم جبرا، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2007،ص 129-130/ 173-174..الخ.
ويمكن قراءة ذلك بصياغة أخرى، عند العمَانية غالية ف.ت، آل سعيد وذلك في روايتها( صابرة وأصيلة،2007)، معتبرة ما تعرضت له صنيعَ خيال( وقعت أحداث هذا العمل الخيالي في عقد الستينيات من القرن الماضي)، وذلك تجنباً لأي تشابه قد يحدث، بمحض المصادفة هنا أو هناك...
تطريف الساكن
لكن ثمة تخريجاً لفعل التنويه المعتبر عتبة رؤية مركَّبة من قبل الكاتب، ليس بالصيغة السالفة، وإنما بذائقة فنية لا أظنها تفقِد المنوَّه به نكهة المتخيل، أو غواية اللعبة المعتمدة، وما في ذلك من تجلي الهاجس الإشاري في صداه المضاعف على صعيد البنية القولية، وبقاء فسحة التكهنات رهن التأويل وجموح المعنى فيه، والذي أعنيه هو سليم بركات، في مجموعة من رواياته الأولى. في ( فقهاء الظلام)، بعبارة ( الحمقى الذين قبلوا الاشتراك في هذه الرواية)، وفي ( أرواح هندسية)، بعبارة موازية نوعاً ما دلالةً( المشتركون في هذه الرواية بحسب أسمائهم المجهولة)، وفي( الريش)، حيث نقرأ( الشخوص المنتخبة للإشكال القدَري)، و(معسكرات الأبد)، بقوله( أقدار مرسومة في خفة لهؤلاء المنسيين)، ومن ثم ( عبور البشروش)، إذ يقول( الأسماء بحسب ورودها في شفق المحنة)..ولا أظنها بمفارِقة للصيغة القالبية التي توقفنا عندها آنفاً، لأن المشار إليه هو أن عملاً يجري الانشغال به في المتخيَّل الإبداعي للكاتب، وأن من ينخرط في لعبة مواطنة فنية، يرتد نسبَاً إلى الكاتب ذاته، وليس إلى خانة عائلية ما، يمكن تتبع حقيقته في سجلات النفوس، ودوائر الدولة المختلفة بنشاطاتها.
ما يهم هنا، هو البذرة التي تنمو وتشكّل عالمها، حيث إن مغذيات الواقع هي التي تتكفل بتحريض البذرة ، أي بذرة على التجذر والتكون والنماء، مع فارق إيقاع النمو ذي الصلة ببصيرة الكاتب الإبداعية، وما عدا ذلك يكون في مواجهة خرافة، خرافة بكل معانيها سلباً، فيما يخص مغزى الصفة الملحقة بالشخصيات” أي الخيالية”، ربما لأن الممكن قوله أخيراً وليس آخراً، هو أننا مازلنا نعتبر الخيال وليد عالم البرّية المجهول وليس ما نحياه بدرجات متفاوتة!