رواد هذين المقهيين، فالأول ملم بالقراءة والكتابة والثاني أمي تماماً، جاء الأول من حماة إلى دمشق واسمه أبو حسن، نصبه الصحفي الراحل أحمد علوش في جريدته المسائية «الصرخة» زعيماً لحزب وهمي يدعى «حزب يصطفلوا» ونزل الثاني من حي الأكراد «ركن الدين» واسمه وهو كنيته- أبو أيوب.
كان أبو حسن يجد لنفسه مكاناً بين نخبة المثقفين في البرازيل من أمثال: عبد السلام العجيلي وخالد العسلي وصلاح المحايري وسعيد الجزائري وزهير الشلق وعابدين حماد وسواهم، لكنه يشكم نفسه عندما يدور الحديث حول بعض قضايا الأدب والفن متصنعاً الإصغاء، منتظراً فرصة ما، لكي يدلي برأيه، وغالباً، ما تأتي هذه الفرصة، إذ يعرج الجالسون على الشأن السياسي.
أبو حسن.. الآغا اليساري
كانت آراء أبي حسن رمضان آغا، تصب في آخر تحليل في طاحونة اليسار والاشتراكية، وكان على الرغم من مظهره الشعبي، القبماز الحموي والشملة والطربوش العالي، بما يوحي أنه بعيد عن القيام بتحليل قضايا الساعة في السياسة المحلية والإقليمية والدولية، إلا أنه يدلي بأفكار وآراء سليمة إلى حد بعيد، لكنه يتختتم كلامه بعبارته المعهودة، مادخلنا،يصطفلوا، ومعروف أن هذه الكلمة العامية تعني الحياد وعدم المسؤولية.
ثم... إلى المقهى المقابل
كان أبو حسن يضع علبة تبغه«الحموي» المعدنية البيضاء على طاولة المقهى، فبعد أن ينهي حديثه، ويكون قد دخن لفافتين على الأقل، من تبغه ذي الرائحة الحادة، يضرب بأنامله على العلبة، ثم يحملها إلى جيبه قائلاً: أودعناكم، ثم يتجه مباشرة إلى مقهى(الهافانا) المقابل.
أبو أيوب الأمي وثلاث صحف
أبو أيوب الكردي، كان يسبق جميع رواد البرازيل في المجيء فيحتل أول طاولة، قرب الزجاج، ولا أحد سواه في المقهى، لكنه يستعير اثنتين من الصحف الصباحية الأهم، بين ثلاث: الرأي العام والأيام والفيحاء، ثم يضعها تحت يمناه على الطاولة، موزعاً نظراته بين المارة على الرصيف، في انتظار قدوم أحدهم، ممن يمكن أن يقرأ له بعض أخبار الصحف.
الأخبار تحت يد أبي أيوب
يسأله أولاً أن يقرأ له العناوين الكبيرةmanchette في الصفحات الرئيسية، وقد يستعيده قراءة بعضها، ثم يطلب إليه أن يقرأ له الخبر المحلي كذا، والعربي كذا.. ثم الدولي، وربما أحب معرفة بعض التحليلات والتعليقات السياسية، كل ذلك بطريقة لطيفة مهذبة، مع ابتسامة تخجل القارئ وتمنعه من أن يتململ.
وعندما يكتمل نصاب الرواد في البرازيل، يحين دور أبي أيوب لممارسته لعبته الإعلامية، هو الأمي الذي لا يقدر أن يفك الحروف، كما يقولون، يلتفت إلى لا أحد، بعينيه المبتسمتين تحت نظارته الطبية البنية، قائلاً: هل سمعتم بقرار كذا الذي أصدره أمس الوزير الفلاني؟
وهل عرفتم ما جرى في قرية النائب فلان؟ وهل جاءكم خبر رئيس وزراء فرنسا وعلقته مع النواب في الجمعية الوطنية هناك... الخ..
المثقفون يصغون لأبي أيوب
وعلى الرغم من أن الحاضرين هم جميعاً من صفوة المثقفين مثل الكاتب الكبير عبد السلام العجيلي والأستاذ الجامعي نظيم الموصللي والمؤرخ عابدين حمادة والمحامي زهير الشلق، والصحفي سعيد الجزائري.. الخ، فإنهم ينصتون جيداً إلى أخبار أبي أيوب. حتى إذا شك أحد ما في صحة خبر مما يرويه أبو أيوب، قال له: إقرأ إذاً في جريدة كذا، على الصفحة الأولى أو الثانية... أو ما شابه.
مواقف مع الدكتور العجلاني
في تلك الأيام كان وزير التربية (المعارف) د. منير العجلاني، وكان مقرها مكان موقع وزارة السياحة حالياً... ولدى انتهاء الدوام وفيما كان الوزير يغادر ليستقل سيارته، فوجئ بأبي أيوب يحييه ويقترب منه وهو يبتسم- كان الوقت شتاءً والطقس بارداً- ويقول مشيراً إلى معطف العجلاني الأنيق: أما آن الوقت لتنتهي أجرة هذا المعطف؟ وفهم العجلاني مقصد أبي أيوب فأخذ يخلع المعطف ويفرغ جيوبه، قال أبو أيوب: ومافي الجيوب، قال الوزير: الأوراق فقط، قال أبو أيوب: هيك معليش.
كان الوزير ينتعل حذاءً أنيقاً، نعله من الكريبcrepe موضة ذلك الزمن في الخمسينيات، فأشار إليه أبو أيوب وقال: وهذا، هنا قال الوزير: وكيف أعود إلى الدار... حافياً؟ قال أبو أيوب: أولاً معك السيارة ، وثانياً: أما عاد حذائي ينفع؟