وفتح هذا الانسحاب من معاهدة 1972 الباب أمام الولايات المتحدة الأميركية للسير بقوة في طريق تطوير ونشر وإنتاج نظام الدفاعي الصاروخي، حيث تبنت إدارة بوش خطة طموحة تقوم على الإسراع فوراً في بناء نظام متعدد للدفاع الصاروخي، يتألف من صواريخ اعتراضية منطلقة من البر ومن سفن بحرية أو قواعد بحرية، بالإضافة إلى أسلحة ليزر منطلقة من طائرات، لمواجهة أي صاروخ ينطلق في العالم لتدميره في الجو، وهذه التقنية تمتلكها واشنطن وحدها، ومراكز هذا الدرع الصاروخي انتشرت على حدود روسيا مروراً بكل دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة ودول في أميركا اللاتينية وأجزاء في آسيا وخاصة في كوريا الجنوبية، وأخيراً تركيا.
لاقت هذه المنظومة الترحيب من قبل بعض الدول لارتباط مصالحها بها، فقامت بولندا باتفاق مع الولايات المتحدة معلنة على لسان «دونالد تاسك» رئيس الوزراء البولندي آنذاك: إن بولندا وافقت على نشر عناصر من الدرع الأميركية المضادة للصواريخ في الأراضي البولندية، وصرح «لقد توصلنا إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول الدرع الصاروخية» بعد أن وافقت واشنطن على مطلب بولندا الأساسي في نشر بطاريات باتريوت مضادة للصواريخ متوسطة المدى لضمان أمن بولندا، وبموجب هذه الاتفاقية ستنشر واشنطن عشرة صواريخ اعتراضية بحلول 2012.
وكان مخططاً إقامة قاعدة رادار تابعة للدرع تعتزم واشنطن وضعها في تشيكيا علماً أن ما يقرب ثلثي التشيك يعارضون استضافة نظام الرادار وكانت الحكومة عبرت عن موافقتها لإقامتها، وفي 15-6-2011 أعلنت جمهورية التشيك انسحابها من الدرع الصاروخي الأميركي، وأكد وزير الدفاع التشيكي الكسندر فوندرا أن «براغ وواشنطن تخلتا عن مشروع إقامة مركز للإنذار المبكر لإطلاق الصواريخ في التشيك كان يفترض أن تموله الولايات المتحدة ضمن منظومة الدفاع المضادة للصواريخ التابعة لحلف شمال الأطلسي» مرجعاً السبب في ذلك إلى «قلق التشيك من تقليص دورها في هذه الخطط».
وفي 4 شباط 2010 فوجئت وسائل الإعلام والأوساط السياسية العالمية بتصريح الرئيس الروماني ترايان باسيسكو أن بلاده وافقت على نصب منظومة من صواريخ الاعتراض الأميركية على أراضيها، وجاء الإعلان في بوخارست بعد اجتماع عقد بين الرئيس الروماني «وايلين ناوشر» ومساعدة وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون التسلح، ويبرر وزير الخارجية الروماني «تيودور باكونسكي» موقف بلاده هذا بأن النطاق الجغرافي الذي تشكل رومانيا جزءاً منه يبدو هشاً أمام الهجمات الصاروخية وأن المشروع الأميركي يجسد اتفاقاً ثنائياً دفاعياً، وسيبدأ العمل بها للفترة 2011 - 2020 وستكون فاعلة ابتداءً من 2015.
كما زودت واشنطن الأسطول السادس المؤلف من 56 قطعة من حاملات الطائرات والبوارج بصواريخ الردع، إضافة إلى خطتها الرامية إلى نشر سفن حربية من فئة «إيجيس» مزودة بصواريخ «SM-3» في البحر الأسود، في حين نشرت في آذار الماضي في البحر الأبيض المتوسط السفينة «يو اس اس مونتيري»، وهي سفينة مجهزة لكشف وإسقاط الصواريخ.
وأخيراً تم في الشهر الماضي موافقة تركيا على نشر الدرع الصاروخية حيث أعلنت وزارة الخارجية التركية أن تركيا موافقة على نشر قطع من الدرع الصاروخية التابعة لحلف شمال الأطلسي على أراضيها. وقال سلجوق اونال الناطق باسم الخارجية التركية في بيان «من المقرر أن تنشر الولايات المتحدة راداراً للإنذار المسبق خاص بالحلف الأطلسي في بلدنا». وقال ميتشل رئيس المركز الأوروبي في التحليل السياسي إن «أولويات نشر الدفاع الصاروخي في الوقت الحالي هي دول البلقان، تركيا وإسرائيل».
وقد أثارت هذه المنظومة سخط الكثير من الدول، فقد صرح الرئيس الروسي ميدفيديف: «إن ظهور منظومة الدفاع الصاروخي قد يقضي على توازن القوى النووية، وذلك يجب تجنبه لأن تغيير هذا التوازن سيؤدي إلى سباق التسلح في نهاية المطاف»، وقال لافروف وزير الخارجية الروسي «إذا كانوا يتحدثون عن تهديدات محتملة من قبل إيران أو كوريا الشمالية، فكان يجب نصب الصواريخ الدفاعية في مواقع مختلفة». تشعر روسيا أنها باتت شبه محاصرة بالصواريخ الأميركية المتوسطة والبعيدة المدى الموزعة على امتداد خط يتسع من اليابان إلى تايوان وألاسكا شرقاً، والأخرى موجودة في بريطانيا والنرويج ومن ثم رومانيا مستقبلاً، يضاف لها تلك التي في دول الخليج العربية، وهي صواريخ اعتراض وتقاطع لكن موسكو ترى أن 725 قاعدة أميركية حول العالم تفرض نوعاً من الهيمنة الأميركية العسكرية المطلقة التي تهدد مصالحها.
كما استطاعت روسيا كسب تأييد الصين والدول الأعضاء في «منظمة شنغهاي للتعاون» في انتقاد خطة الولايات المتحدة الأميركية في إنشاء الدرع الصاروخي، ووقعت الدول الأعضاء في المنظمة، خلال اجتماعهم في العاصمة الكازاخستانية، إعلاناً يحذر من الدرع الدفاعي، وتضم المنظمة بالإضافة إلى روسيا والصين، كل من كازاخستان، وقيرغيزيا، وطاجكستان، وأوزبكستان، وتحظى كل من الهند وإيران ومنغوليا وباكستان بوضع مراقبين فيها، وقال الإعلان: «إن بناء هذه المنظومة من قبل دولة واحدة، وبشكل أحادي لمثل هذا الدرع، يخل بالتوازن الاستراتيجي، وبالسلم الدولي».
يشعر حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بالقلق من أن تؤدي هذه الخطوة إلى توتر علاقتهم مع موسكو وتزعمت ألمانيا نداءات بإجراء مشاورات أوسع نطاقاً بشأن المشروع، وشكت أوكرانيا من أن واشنطن لم تتشاور معها، وقال فرانتس يوزيف يونج وزير الدفاع الألماني على هامش اجتماع لوزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي في مدينة فيسبادن الألمانية «ينبغي لنا أن نناقش تطوير مثل هذا الإجراء الدفاعي في إطار حلف شمال الأطلسي»، وقال منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي خافيير سولانا إن مستوى التهديد للأراضي الأوروبية «موضع شك» وأن الأمر يعود إلى كل دولة في تحديد ما تريد أن تفعله.
ففي ألمانيا طالبت المعارضة أنجيلا ميركل مقاومة الدرع الصاروخي الأميركي، حيث قال زعيم الحزب الحر الديمقراطي المعارض جوديو فيسترفيله إن الخطط الأميركية بنشر مظلة دفاع صاروخي في شرق أوروبا ستؤدي إلى جولة جديدة من سباق التسلح، وأشار إلى عدم حاجة القارة إلى مزيد من التسلح، وإنما لأفكار جديدة لنزع السلاح، وحذر كورت بيك زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحاكم «ميركل» من الموافقة على خطط الدرع الصاروخي، وصرح «إن التسلح سيهدد ألمانيا وأوروبا وسيقود إلى حالة من عدم الاستقرار في العالم، وأننا نسعى لمزيد من الأمن وهو أمر لن يتحقق من دون روسيا».
وفي فرنسا تساءل السياسيون إلى أي درجة يمكن أن يجلب هذا النظام الأميركي الممتد الحماية للأراضي الأوروبية؟ وبحسب قول روبير رنكيه نائب مدير الشؤون الاستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية: نحن بحاجة إلى فهم أفضل للنوايا الأميركية، وقد تصدر رانكيه وآخرون مؤتمراً ركز على الخطوات المقبلة للناتو بخصوص مسألة الدفاع الصاروخي، واتخاذ الإدارة الأميركية موقعين لطائرات اعتراضية للصواريخ في كاليفورنيا وآلاسكا، وصرح قائلاً «إن الدفاع الصاروخي ليس أولوية بالنسبة لفرنسا، كما أننا لا نجد فعاليتها المكلفة فعالة جداً».
أما المعارضة الكندية فطالبت بإجراء تصويت برلماني على نظام الدرع الصاروخي الأميركي، حيث يرى زعيم الحزب الديمقراطي الجديد اليساري جاك ليتون إن المشاركة الكندية ستتطلب نفقات باهظة وستؤدي إلى عسكرة الفضاء.
في حين قالت إيران على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية رامين مهما نبرست تعليقاً على مشروع إقامة درع صاروخي للناتو في تركيا إن «نشر نظام الدرع الصاروخي لا يخدم مصالح شعوب المنطقة ولا يؤدي إلى استتباب الأمن والاستقرار فيها»، وذكر «أن التجارب الماضية أثبتت أن الدرع الصاروخي مشروع أميركي كانت الولايات المتحدة في السابق تريد أن تنفذه في دول أوروبا الشرقية والآن جاء هذا المشروع تحت مسميات استمراراً للسياسات الأميركية».