التي تستغل لإعادة هيكلة المنطقة العربية، بما يستجيب للمصالح الاستعمارية الأميركية والغربية، ومساعيهما للهيمنة على مصادر النفط العربي واستخدامه للسيطرة على العالم. وقد وصف بدقة الصحفي الأميركي وليام الغدال مشروع الشرق الأوسط الجديد، وبوصفه جزءاً من سياسة العولمة الأميركية، بانه محاولة أميركية للسيطرة على أكبر حقول للنفط لتتمكن مستقبلاً من السيطرة على العالم».
ولا يخفى على أحد، إن إضفاء جوانب ايجابية على فكرة العولمة، ليست سوى تمويه للطابع الاستبدادي الذي تمارسه أميركا على عالمنا العربي وعلى شعوب العالم كافة. فالعولمة، وحسب أذكى المفكرين الأميركيين البرجوازيين منهم واليساريين، تعني في هدفها النهائي شيئاً واحداً وهو «إزالة أو تحطيم الحدود الجغرافية والحواجز الجمركية، وتوفير التسهيلات الكاملة، لنقل رأس المال بكل حرية الى السوق الكونية دون عائق، هذا في جانبها الاقتصادي، أما في جوانبها السياسية والمجتمعية، فهي، تهيئة المناخ الملائم لفرض القيم الأميركية الرأسمالية على الآخرين وقبول ذلك من قبل الشعوب بعد ترويضها بايديولوجية العولمة، والتي تعني في الفكر والممارسة، نفي الآخر، وإحلال قيم ثقافية تافهة مكان القيم الإنسانية التحريرية، وفرض النمط الاستهلاكي على السلوك في البلدان المهيمن عليها عولمياً. وهذا يقتضي إلغاء مقومات بناء الاقتصاد التنموي الوطني في البلدان النامية، وربط اقتصادياتها بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. وللنجاح في هذا التوجه لابد من فرض العولمة الثقافية، التي تحل مكان القيم والهوية الوطنية، والثقافة الوطنية، وغياب الشخصية التي تعتز بوطنها وتاريخه وقيمه، وتمرر ذلك تحت شعارات مزيفة مثل حقوق الإنسان والمجتمع المدني وغير ذلك، ونقول مزيفة لأن مروجيها هم الأكثر انتهاكاً لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب.
وقد أشار هانس بيتر وهارالد شومان في كتابهما المعروف «فخ العولمة» الى أن العولمة عبر سياسات الليبرالية الحديثة المستندة إلى آليات السوق وتقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة وانكفاء دور الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي. ما يؤدي الى عفوية السوق المتوحشة التي من نتائجها اتساع البطالة وانخفاض الأجور وتدهور مستويات المعيشة. فهل ثمة حقوق للإنسان في ظل التفاوت الصارخ في توزيع الثروة، حيث يتنعم القلة بثروة المجتمع أما الأكثرية الساحقة فمحرومة منها.
منذ بداية إطلاق مصطلح العولمة، توجهت الأنظمة الأميركية والغربية الى الشرق الأوسط، فأطلقوا مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يشمل منطقة واسعة تضم البلدان العربية بكاملها، إضافة إلى تركيا وايران وافغانستان وباكستان. ويتضمن هذا المشروع فكرة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بما يخدم المصالح الأميركية والاسرائيلية في هذه المنطقة الواسعة من العالم. وعندما شعرت الولايات المتحدة ان مشروعها المعولم «الشرق الأوسط الكبير أو الجديد» بدأ يتهاوى ويتضعضع بفعل المقاومة الباسلة لهذا المشروع، من قبل قوى المقاومة في العراق ضد الاحتلال الأميركي وفي أفغانستان ولبنان وصمود سورية العربية قي وجه هذا المشروع، أوعزت لوكيلتها وحليفتها اسرائيل لشن حرب على لبنان أملاً بالقضاء على المقاومة اللبنانية وقوتها الضاربة حزب الله، ومع بداية العمليات العسكرية الإسرائيلية 2006، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كونداليزارايس أن «الشرق الأوسط الجديد سوف يولد من رحم هذه الحرب» ولكن انتصار المقاومة اللبنانية وإلحاق الهزيمة بآلة الحرب الإسرائيلية، أفقد الإدارة الأميركية صوابها، وأصبح لبنان المقاوم مسماراً آخر في نعش هذا المشروع الاستعماري العولمي، مضافاً إلى انتصارات الشعب العراقي ضد المحتلين الأميركان. وسقطت إدارة المحافظين الجدد برئاسة بوش الابن، بسبب فشل سياستها في الشرق الأوسط. وجاءت إدارة أوباما الديمقراطية، أملاً في تجاوز آلام هزيمة المحافظين الجدد، ولكن الإدارة الجديدة لم تكن سوى الوجه الآخر للامبريالية الأميركية، وسرعان ما سقطت جميع وعود أوباما الايجابية التي أطلقها اثناء حملته الانتخابية، وأخذت إدارته تتلمس النتائج الكارثية لسياسة من سبقوه، وكان من المفترض أن يتخذ اجراءات وانتهاج سياسة مغايرة لسياسة المحافظين الجدد، ولكنه سرعان ما وجد نفسه ينفذ نفس السياسة وهذا ما أدى عملياً إلى شرخ كبير داخل المجتمع الأميركي نفسه والى تعمق الأزمة الاقتصادية الأميركية التي تهدد أميركا بالانهيار الكامل، و كثير من جوانب هذه الأزمة تكمن في الحروب التي خاضتها أميركا على مدار السنوات العشر الماضية، وتشير بيانات الديون الأميركية الى انها بلغت عام 2001، نحو 7،5 تريليون دولار، وارتفعت بشكل خطير في عام 2010-2011 لتصل الى 141300 تريليون دولار. وهذه الأزمة أثرت كارثياً على أداء الاقتصاد الأميركي وجعلت العالم رغماً عنه يشارك في دفع الفاتورة الأميركية بشكل مباشر وغير مباشر، أي إرغام أوروبا وجميع الدول التي ارتبطت بالاقتصاد الأميركي المعولم أن تتحمل جزءاً من الأزمة الاقتصادية الأميركية. وإذا كانت العديد من دول أوروبا، تعاني الانهيار الاقتصادي بفعل أزمة الديون المستفحلة، فان أميركا مقبلة على وضع لايقل خطورة عن وضع اليونان وايرلندا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. وبدأ الشعب الأميركي ينزل الى شوارع نيويورك احتجاجاً على سياسة حكومته الاقتصادية التي أدت الى وجود 64،2 مليون أميركي يعيشون تحت خط الفقر- احصاءات مكتب التعداد السكاني الأميركي- ويتضمن ذلك حوالي 17 مليون طفل محرومين من الغذاء الكافي من حليب الأطفال، وتقول الإحصاءات نفسها، ان 20 مليوناً يعيشون في فقر مدقع. إلى جانب ارتفاع معدل الفقر خاصة خلال السنوات الثلاث الماضية، فقد قامت الحكومة الأميركية بمصادرة المنازل وتزايد عدد المواطنين غير المؤمن عليهم، وزيادة أعداد المشردين والجياع، والى جانب ذلك فقد ازداد الأثرياء ثراء وتراكم مستويات ضخمة من الثروة الارستقراطية المالية التي تتحكم بالاقتصاد الأميركي وبالنظام السياسي- وفي ظل ادارة الجمهوريين والديمقراطيين نقل الجزء الأكبر من الثروة إلى أيدي الشركات الاحتكارية الكبرى والنخب المالية، وباسم السوق الحرة، تم تخفيض الضرائب المفروضة على الشركات والأغنياء، بينما زادت الضرائب على ذوي الدخل المحدود. وهؤلاء المحرومون هم الذين ينظمون الاحتجاجات الواسعة في وول ستريت الرافضون للسياسة الاقتصادية الأميركية التي تجر المجتمع الأميركي الى الكارثة والانهيار جارفة معها اقتصاديات البلدان الأخرى القوية منها والهشة التي ارتضت عولمة اقتصادها خدمة للسيد الرأسمالي الأميركي.