والتفاعل والدردشة والاتصال، وغيرها من أشكال الإعلام الجديد، تغير عادات الناس وطريقتهم في التفكير والتدبير . كيف لا وقد بلغ عدد المشتركين وأصحاب البرفايلات في عالم الفيسبوك ما لا يقل عن 600 مليون نسمة ، هم أعضاء جمهور نهم جداً وشره للغاية لكل ما له علاقة بثقافة هذا الموقع الذي أطلقه - مارك زوكربيرغ- عام 2004
إنه جيل كامل صاعد في المجتمع الإنساني اليوم ،آتياً بقيمه ومفاهيمه المبتكرة ، واستراتيجياته الجديدة في تسمية العالم وفهم الأشياء ، وهي قيم تقلب كل معهود ثقافات ومستقر عادات العلاقات الإنسانية كما عرفناها منذ فجر التاريخ . إنه انقلاب ثقافي بالمعنى الفني للكلمة وتحول حقيقي ، وبسرعة رقمية ، في كل الأنساق التصورية والقيمية . وقد قال مؤسس الموقع نفسه محقاً، ذات يوم إن «الفيسبوك قد غير القيم الاجتماعية » هذا ما يذهب إليه مؤلفا الكتاب تحت عنوان: «قتلني الفيسبوك» للمؤلفين - الكساندر دزنارد- وتوماس زوبر-، وهو عنوان يستدعي في اذهان القراء كتاباً آخر أصدراه قبل سنتين تحت عنوان «قتلني الفضاء المفتوح» وقد حقق الكتابان معاً رواجاً منقطع النظير، بسبب جدة وراهنية واستكشافية الموضوع الذي طرحاه بجرأة وبقدر من الابتكار والأصالة.
ويرى الكاتبان أن جيل الفيسبوك حالياً يعاني أكثر ما يعاني ، من أعراض متلازمة فائض الاتصال والتواصل المفرط ، المؤدية إلى أن يفقد المرء أخص خصوصياته الفردية ، وهو سابح في عراء عالم من الانكشاف ، أو مستغرق عبر الفيسبوك في الدعاية الفجة لنفسه بهدف خلق أسطورته الخاصة ، من خلال اطلاع جمهور غير محدد على الجوانب المشرقة فقط من مفردات حياته اليومية ، بالتعليقات والصور ، محولاً نفسه إلى مراسل
correspondent» للاخرين, داخل البيت لينقل لهم على الهواء وبشكل مباشر «direct » جميع الحركات والأحداث الشخصية والعائلية وفي وقتها الحقيقي . كل ذلك جرياً وراء وهم الانتشار وإرضاء للغرور الذاتي.
والحال أن فائض الارتباط والتواصل هذا جعل أفراد جمهور الفيسبوك في حالة انكشاف واضح بل فاضح ، لم تبق معها حاجة إلى وجود رقيب اجتماعي ، أو مؤسسي من جهات الضبط ، أو «أخ أكبر «Big Brother » بعبارة الروائي الانكليزي - جورج أورويل - لكي يحشر انفه في خصوصياتهم ، لأن جميع «الأصدقاء» على قائمة صاحب البروفايل الفيسبوكي هم سلفاً أخوة صغار «LittLe BRthers » يحشر بعضهم أنفه في خصوصيات بعض آخر على نحو أصبحوا معه وكأنهم جميعاً يؤدون أدواراً في حلقة مكررة من مسلسلات تلفزيون الواقع ، أو كانهم يعيشون في بيوت زجاجية شفافة ، تلتقي فيها يوميات الواقعي بالافتراضي ، ويقبع فيها الفرد تحت كشافات وكاميرات لاقطة حشرية ، وبواقع 24/24 ساعة .ويذهب المؤلفان إلى أن متلازمة فائض التواصل ، التي يعاني منها جمهور الفيسبوك ، ما هي في الواقع إلا نوع جديد من عقد النرجسية ، وذلك أن أغلبية جمهوره سرعان ما يقع في فخ المشهدية والاستعراضية الأنانية وحب الظهور الشخصي ليستسلم مع مرور الوقت، شيئاً فشيئاً ، لنوع من الانفصال عن العالم الحقيقي، ليندمج في مجتمع الفيسبوك غير الاجتماعي ، لأن أقارب وأصدقاء الإنسان الحقيقيين في الواقع يتحولون بقدرة قادر إلى أصدقاء افتراضيين ، ولذلك تتطاول مسافات ومواعيد التواصل واللقاء العياني معهم ، في حين يتحول «الأصدقاء»الافتراضيون على الموقع ، الذين لا يعرفهم المرء لا من قريب ولا من بعيد ، إلىأصدقاء واقعيين ، بل فوق واقعيين، لأنهم يطلعون على أخص خصوصيات حياته اليومية ، بل اللحظية . والأنكى من ذلك أكثر أن الفيسبوك يجعل الإنسان ينفصل أيضاً عن نفسه ، فلا ينظر إليها إلا عبر مرايا الآخرين المحدبة ، ليمضي بذلك سحابة يومه وهو يتملى شاشة الكمبيوتر ليرى صورة وجهه وأفكاره «الخلاقة» واختياراته «العبقرية» وانعكاسات كل ذلك في ردود فعل الآخرين و«المعجبين» و«الأصدقاء» ضمن المجتمع النرجسي الفيسبوكي الطويل العريض تماماً مثلما كان - نرسيس - في الأسطورة القديمة يمضي هو أيضاً كامل يومه وهو يتملى صورة وجهه منعكسة على صفحة مياه النهر . أما إذا اكتشف كل هذا وفكر في الانسحاب من عالم الفيسبوك فهناك أيضاً تدابير في انتظاره حيث ستتحتم عليه الإجابة بسبب مقنع في خانة خيارات إغلاق الحساب .والطريف أن من ضمن الأسباب المقترحة واحداً يقول : «لأنني أمضي وقتاً طويلاً على الفيسبوك »واخر «لدي قلق بشأن الخصوصية» وغالباً ما يكون الخياران صحيحين في الواقع ، لتلازم الإبحار مع ضياع وقت كثيرين ، تحول حياتهم الخاصة إلى قطعة حقيقية من جحيمه الافتراضي.