إنها مسلمة ناتجة عن حقائق تاريخية وجغرافية أكدتها سورية من خلال إدارة معركة السلام بمزيج من التمسك بالثوابت مع القدر الضروري من الواقعية في قراءة المتغيرات وموازين القوى.
وأكدت السنوات الأخيرة هذه المسلمة.إذاً ليس ثمة مفاجأة في إعلان سورية العودة لاستئناف المفاوضات مع (اسرائيل )عبر الوسيط التركي,فلطالما أعلنت سورية استعدادها للمفاوضات من دون شروط مسبقة,اللهم عدا اعتبار أن هذه المفاوضات ترتكز على مرجعية مؤتمر مدريد القائمة على أساس قراري مجلس الأمن الدولي 242-,338ومبدأ»الأرض مقابل السلام« فجوهرها ما يطبع الوضع الحالي هو تراجع (اسرائيل )عن مبدأ»الأرض مقابل السلام« يقابله طرحها لمبادئ وتصورات جديدة تستهدف في جوهرها الاستيلاء على الأرض,وتحقيق الأمن معاً من خلال ارغام الطرف العربي على الإذعان للشروط الاسرائيلية تحت ضغط القوة العسكرية,واختلال موازين القوى لصالح (اسرائيل),ولأن من المستحيل على الطرف العربي الخضوع لتلك الشروط الاسرائيلية توقفت عملية السلام إلى اشعار آخر!
وهذا ما تحدث عنه الرئيس بشار الأسد بوضوح في مؤتمر القمة العربية الأخير الذي عقد في دمشق أواخر آذار الماضي عندما قال:»الأمن لن يتحقق لأحد إلا من خلال السلام..وليس من خلال العدوان والحروب التي لن تجلب إلا المزيد من الآلام ,والسلام لن يأتي إلا من خلال الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة واستعادة الحقوق كاملة..وهذا يعني بأن الطرح الاسرائيلي للأمن أولاً غير قابل للتحقيق لأن الاحتلال يناقض الأمن والسلام معاً..ولأن الأمن إن لم يكن متبادلاً ويشمل الجانب العربي فهو مجرد وهم لا وجود له «.
لقد كسبت ا(سرائيل )عدة معارك,لكنها فشلت تماماً في أن تكسب الحرب,وقد استحوذت (اسرائيل )على مساحات من الأرض,إلا أن التوسع لم يضمن لها الأمن ولم يحل دون بقائها رهينة حالة خوف استراتيجية,ولاسيما أن مسار التسوية كان يتحرك بصورة عكسية مع التوسعات الاسرائيلية,فالاتساع الجغرافي ليس تعبيراً عن الأمن,وارتهان الأراضي ليس دلالة على الاستقرار,والتحصن وراء دروع وحصون الردع لا ينتج مشروعية يعتد بها وسط محيط عربي لايمكن أن يظل قيد أوضاع تجاوزتها مراحل التقدم في كثير من المجالات,وتجربة حرب تموز 2006 لا تزال ماثلة أمام العيون.
وإذا كانت (اسرائيل )تنظر إلى أمنها باعتبار أن له أهمية قصوى,دون الالتفاف إلى أن الأمن القومي السوري بدوره ليس له أهمية قصوى,فسورية لم تبن وجودها في أية مرحلة من التاريخ على العدوان والتوسع,وبالتالي ,فإن بنود الأمن السوري في أجندة التفاوض تتوازى إن لم تزد في الدرجة على أمن اسرائيل التي اتسم وجودها في المنطقة بالميل الواضح إلى الاعتداء على جيرانها,وافتعال مبررات الحروب واستلاب الأرض,ومن هنا تحتاج الدول العربية إلى ضمانات أكيدة تؤمنها من مخططات الاعتداءات والتوسعات الاسرائيلية.
ثم إن الضجيج الإعلامي الذي يرافق عودة الجانبين السوري والاسرائيلي إلى استئناف المفاوضات ما هو إلا بمثابة نوع من القبول بالرواية الاسرائيلية التي تضع مسؤولية انهيار المسارات التفاوضية على عاتق الآخرين,وكأن (اسرائيل )مجرد ضحية مسكينة بريئة,في حين أن العرب هم مجرد معاندين وعدوانيين !
وهذا يذكرنا بالرواية الرائجة عن انبلاج فجر جديد للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات,وكأنه هو الذي كان يحول دون ذلك!
عموماً وبمعزل عن التكهنات والتحليلات الإعلامية,فإن الجديد هو كشف حقيقة الموقف الاسرائيلي المعادي للسلام,والرافض للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وثانياً,وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته إزاء الروح العدوانية الاسرائيلية وثالثاً:نزع الذرائع من يد الولايات المتحدة التي تحاول من خلالها عزل سورية واستهدافها,من خلال محاولات إظهارها وكأنها دولة معادية للسلام,رابعاً:إبراز حقيقة الانحياز الاميركي الأعمى( لاسرائيل),باعتباره من أهم عوامل فشل مسارات التسوية في المنطقة.
لقد أكدت سورية استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات لأنها ترغب في احلال السلام العادل والشامل القائم على أسس الشرعية الدولية وقرارات هذه الشرعية ذات الصلة,وهي أسس وقرارات أكدت حق سورية في أرضها,ولم تعلن استعدادها للتفاوض على ما تريد اسرائيل أن تجنيه من وراء هذه المفاوضات.
وكما أكدت سورية:»إن الآلية المطروحة للسلام هي المفاوضات,والمشكلة ليست زيارات أو مبادرات,وهذا الكلام هو هروب من عملية السلام,لأن صنع السلام وفق مرجعية مدريد والقرارات الدولية هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يحقق الأمن والاستقرار للشرق الأوسط,فالحلول المجتزأة والمناورات الإعلامية لن تحقق السلام في المنطقة«.
وأخيراً:السلام في المنطقة لن يحلّق بجناح واحد أو يسير على قدم واحدة,لأن محاولة استبعاد عملية السلام سيضع المنطقة بالقرب من مستودع بارود قابل للانفجار في أية لحظة,وإن ذلك لن يستثني اسرائيل,ونشير هنا إلى تجربة حرب تشرين ,1973هذه الحرب لم تكن استثناء فمن الممكن أن تتكرر وبصور أكثر قوة إذا ما أصرت اسرائيل على تكريس نهج العدوان واستبعاد نهج السلام.
وعليه,فإذا ما أرادت (اسرائيل) أن تتحدث عن السلام فعليها أن تعمل وفق معطياته ومقوماته لا يصال المنطقة إلى حالة الاستقرار,لكن الأحداث والوقائع تؤكد أن( اسرائيل )تعمل على نحو يناقض هذا,وعلى نحو يضع المنطقة دائماً على حافة الاندفاع نحو الأسوأ..!!