ومن المؤسف أن بعض وسائل الإعلام العربية, والتي ليس لها من العروبة إلا الاسم, تشارك في عملية الخلط هذه, التي توجهها وتشرف عليها أجهزة الإعلام الصهيو-أميركية في بعض العواصم الغربية.
وهكذا فهم يكررون تعبير (الشرق الأوسط) بدلاً من (المشرق العربي), و(شمالي إفريقيا) بدلاً من (المغرب العربي), و(الاستيطان الصهيوني) بدلاً من (الاستعمار الصهيوني), و(الإرهاب الإسلامي) بدلاً من (الإرهاب الأصولي), و(الخلاف الإسرائيلي - الفلسطيني) بدلاً من (الصراع العربي - الإسرائيلي).. وغير ذلك.
وسعياً وراء الغاية نفسها, ولكن في منحى آخر بدأ استخدام عدة تعابير تحاول التمييز بين أبناء الأمة الواحدة,وهكذا نشأت صفات جديدة تستند إلى معايير جهوية أو إقليمية, وهكذا بدأنا نسمع عن (البلاد الخليجية),و(المدن المغاربية),و (الأقاليم المصرية), و(البضائع المتوسطية).
وآخر ما طالعتنا به الأجهزة الإعلامية إياها هو (الخلط) المتعمد بين مفهومين متقاربين, ولكنهما ليسا مترادفين وهما مفهوما (العنف) و (الإرهاب), وهكذا أصبحنا دوماً نسمع أحد المصطلحين معطوفاً على الآخر, فيقال: العنف والإرهاب, أو الإرهاب والعنف, وكأن المصطلحين يدلان على مفهوم واحد, ولهذا يجب شجبهما معاً!
- والحقيقة أن العلاقة بينهما ليست علاقة ترادف, وإنما هي علاقة شامل ومشمول, أو عام وخاص, إذ إن العنف هو اسم جنس, والإرهاب هو اسم نوع, وينتج عن هذا أن كل إرهاب هو استخدام للعنف, ولكن لا يصح القول إن كل استخدام للعنف يشكل إرهاباً.
والعنصر المشترك بين العنف والإرهاب هو استخدام القوة, فإذا تم استخدام القوة لهدف مشروع نكون أمام حالة من حالات (العنف VIOLENCE), وأما إذا تم استخدام القوة في سبيل تحقيق هدف غير مشروع فنكون أمام حالة (الإرهاب TERRORISME) وبكلمة أخرى فإن العنف يتضمن استخدام وسيلة غير مشروعة (القوة) للوصول إلى غاية قد تكون مشروعة, وقد تكون غير مشروعة, وأما الإرهاب فهو استخدام وسيلة غير مشروعة للوصول إلى غاية غير مشروعة أيضاً.
وهذا الفارق يولّد فرقاً آخر بين التعبيرين, لأن العنف موجود منذ بدء البشرية, منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل حتى اليوم, وأما الإرهاب فهو ظاهرة حديثة قد لا تعود إلى زمن أقدم من الثورة الفرنسية حين فرض دانتون وروبسبيير نظاماً دموياً سُمي من بعدهم (عهد الإرهاب LE REGNE DE LA TERREUR).
وملخص القول في هذا المجال إنه يجب تمييز (العنف) عن تعبيرين آخرين يشبهانه في المعنى, وهما (الإرهاب) و(العدوان), لأن هذه المصطلحات الثلاثة متميزة عن بعضها بالعربية (عنف, إرهاب, عدوان) وفي اللغات الأجنبية:
(VIOLENCE, TERRORISME, AGRESSION), واستخدامها كمصطلحات مترادفة فيه امتهان للحقيقة من جهة, ونوع من الانحراف عن الثوابت القومية من جهة ثانية.
ولشرح هذه النقطة الأخيرة نقول: إن أجهزة الإعلام الصهيو-أميركية تمزج بين (العنف) و(الإرهاب) عن عمد لإيهام المتلقي بأن أي استخدام للقوة فيه (إرهاب) للآخر و(عدوان) عليه, بينما الحقيقة هي أن هذا الاستخدام هو حق في بعض الحالات, بل هو واجب أيضاً في حالات أخرى, سواء نظرنا إلى هذا الأمر في الإطار الديني, أم في إطار القانون الداخلي, أم في مجال القانون الدولي.
1- ففي الإطار الديني - الإسلامي: نجد أن القرآن الكريم قد نصح بمحاولة حل الخلافات مع الآخرين بالحسنى, فقال: (ادفع بالتي هي أحسن...), وذلك في سبيل استمالة قلب الخصم, ولكنه قال أيضاً وبصريح العبارة: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).
وهكذا فالإسلام هو دين السلام, ولكنه دين الكرامة الإنسانية التي لا يمكن الحفاظ عليها إلا باستخدام القوة حين تقضي الظروف بذلك.
2- وفي إطار القانون الداخلي: أباحت جميع قوانين العالم (الدفاع المشروع على النفس LALEGITIME DEFENSE) وجعلته سبباً من أسباب تخفيف العقوبة أو الإعفاء منها أحياناً, وهكذا فالرجل الذي يضبط رجلاً غريباً في منزله ليلاً, أو الذي يهدده رجل آخر بمسدس يحمله, لا يلام إذا دافع عن نفسه, فأدى دفاعه إلى قتل من هدده في بيته أو بمسدسه.
3- في القانون الدولي تشكل حالة الدفاع عن النفس أيضاً مستنداً شرعياً لحق اللجوء إلى القوة, وقد اعترف ميثاق الأمم المتحدة -وهو أرفع ميثاق دولي- بهذا الحق, حيث نص في الجزء الأول من المادة 51 على ما يلي: (ليس في هذا الميثاق ما يُضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات, في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة, وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين...).
وإذا كانت هذه المادة تتحدث عن حق ممنوح للدول حصراً, فإن نصوصاً أخرى في القانون الدولي, وخاصة اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و ,1907 واتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بهذه الأخيرة عام ,1977 قد أقرت ضمنياً وصراحة بحق الشعوب, وخاصة الشعوب الواقعة تحت الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي, بالمقاومة والثورة.
وهنا نتعرض لإبراز الهدف الرئيسي من محاولة الخلط المتعمد بين (الإرهاب) و(حق المقاومة), إذا إن أجهزة الإعلام المشبوهة تحاول تسويق الفكرة القائلة بأن أي استخدام للقوة من قبل جهاز خارج أجهزة الدولة هو (إرهاب), وبهذا يفتحون المجال أمام وصم منظمات المقاومة (مثل: حزب الله, حماس, الجهاد الإسلامي...) بأنها منظمات إرهابية!
والحقيقة أن أفراد هذه المنظمات يجب النظر إليهم كمحاربين نظاميين, يتمتعون بحماية القانون الدولي, طِوال ما يعملون تحت مظلة الشروط الأربعة التي نصت عليها اتفاقيات لاهاي وجنيف, والشرطان الواردان في البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف عام ,1977 ولهذا فإنه من غير الجائز محاكمة أي من هؤلاء على أعماله الحربية إذا وقع لاحقاً بين أيدي الخصم, بل يكتفى بالتحفظ عليهم كأسرى حرب, وذلك بانتظار المبادلة عليهم أو إطلاق سراحهم دون بديل.
هذا فيما يتعلق بحق الشعوب وأفراد المقاومة بالثورة وحمل السلاح, دون أن يُعتبر ذلك إرهاباً, وأما بالنسبة لحق الدولة بالدفاع عن نفسها, استناداً للمادة 51 من الميثاق, فقد ربطه الفقهاء بالشروط التالية:
1- إذا حصل تهديد ضد الدولة بارتكاب عمل عدواني عليها, فيجب أن يكون هذا التهديد أكيداً, وإذا كان أكيداً يجب أن يكون حالاً, أي وشيك الوقوع.
وهذا الشرط يعني نفي المشروعية عما يسمى (الحروب الاستباقية PREEMPTIVE WARS) من نوع الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان والعراق, وكذلك (الحروب الوقائية PREVENTIVE WARS) التي مارستها, ولا تزال تمارسها إسرائيل منذ عام 1948 حتى اليوم.
2- عند قيام الدولة بالرد على عملية عدوان تعرضت له, فيجب أن يحدث الرد مباشرة بعد عملية العدوان, فلا يجوز بتاتاً أن تنتظر الدولة المعتدى عليها عدة أشهر لتقوم بعدها بالرد, استناداً إلى نظرية الدفاع المشروع عن النفس, لأن الرد يكون في هذه الحالة نوعاً من (الأعمال الانتقامية) وهي -بعكس الدفاع المشروع عن النفس- أعمال ممنوعة دوماً في القانون الدولي.
3- يجب أن يكون الرد متناسباً من حيث القوة والأثر مع الفعل العدواني المراد الرد عليه, فالدولة التي تجتاز حدود الدولة المجاورة لها بفصيلة من الجند لا يجوز الرد عليها بقصف عاصمتها بالصواريخ مثلاً, بحجة الدفاع المشروع عن النفس, لأن ردّ الفعل هنا أقسى بكثير من الفعل نفسه.
- ومن هنا يتبين لنا أنه لا القانون الديني (الشريعة الإسلامية), ولا القانون الداخلي, ولا القانون الدولي يمنع اللجوء إلى القوة (أي استخدام العنف) في أعمال الدفاع عن النفس منعاً نهائياً, فالقرآن الكريم نجده يمنع مثلاً أعمال العدوان, حيث تقول الآية الكريمة: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين), ولكن يبيح الرد على العدوان: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم), والملاحظ هنا أن كلمة (بمثل) يمكن تفسيرها على أنها تبين نوعية الرد وقوته, وفي هذا تغطية لشرط التناسب الذي نص عليه القانون الوضعي.
من هذا يتبين أن (العنف) أمر, و(الإرهاب) أمر آخر, بالرغم من وجود دائرة مشتركة فيما بينهما, وهي (استخدام القوة), وبالرغم من أن الأخلاق الدولية والفطرة الإنسانية تفضلان دائماً حل النزاعات الدولية بالأساليب الفردية (مثل المفاوضات, الوساطة, التوفيق, التحكيم, القضاء الدولي...), فإن اللجوء إلى استخدام العنف لا يزال من الأمور المسموح بها في القانون الدولي في حالتي (الدفاع المشروع عن النفس) و(حق الشعب بالمقاومة والثورة), إذا كان هذا الشعب يعيش تحت نيرالاستعمار الأجنبي أو في ظل الاحتلال الحربي.
ورغبة في خلط الأوراق, تأبى القوى الاستعمارية والصهيو-أميركية عقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب, لأنه لا بد عند وضع مثل هذا التعريف من التطرق إلى حق الشعوب في مقاومة الاستعمار والاحتلال, وعندها لا يعود هناك من مجال للمزج بين (الإرهاب) من جهة, و(أعمال العنف المشروعة) من جهة ثانية, والغريب في الأمر أن (الجمعية العامة) و(مجلس الأمن) أصدرا عدة قرارات في شجب الإرهاب والتنديد بالأعمال الإرهابية, دون أن يحددا لنا حتى اليوم التعريف الدقيق للإرهاب.