دلالات الغياب
ولقد كانت الكراسي هي الموضوع الاساسي في معرضها، الذي أقامته خلال عام2012 في المتحف الوطني بدمشق تحت عنوان (أبيض ملون) وفراغ الكراسي عبر بوضوح عن الخواء والغياب، وتتكشف هذه الابعاد اكثر فاكثر في أزمنة العنف والرعب والتمزق والاضطراب، فالفراغ يأخذ دلالات تأويلية اخرى لأنه يضاعف الاحساس بانكسارات وبخواء الزمن الخاطف، المفاجىء، المصطرع بعنف التوتر اليومي، ومعايشة الاحداث والتفجيرات المتعاقبة دون نهاية، فالفن هو جزء اساسي من الحياة، ولهذا ظهرت تأثيرات الازمنة الراهنة، وبشكل غير مباشر، في تشكيلاتها الفراغية المعبرة عن خواء الزمن الراهن. كأنها كانت تستشعر الأحداث قبل تفاقمها، حيث كشفت بعدا لم يكن مرئياً، وعملت على الاحاطة باحداث مستقبلية مفجعة، بما منحته الكراسي الفارغة في معرضها، من انطباعات بالعزلة والخوف والقلق، في عالم غريب وغامض، واشبه بعوالم المدن المحروقة والمتصدعة والمدمرة والمهجرة، فالكراسي الفارغة لم تكن في النهاية سوى صدى للغربة، للحزن، للفجيعة، للصمت الكبير المتعب والمتفجر معاً.
وهكذا اخرجت الكرسي في معرضها، من وظيفته الاستعمالية التقليدية، فهو لم يعد للجلوس والراحة والشعور بالامان والاطمئنان، بل لطرح المعاني والالتباسات والافكار والدلالات والقيم الوجودية والجمالية الحديثة والمعاصرة، ويزداد هذا الشعود حين نعلم انها حولت الكراسي الى فسحة للون الابيض فقط، الذي هو مصدر كل ألوان الموشور او الطيف الشمسي، وهنا أدخلت الفكرة بقوة في معرضها، لأن فن التجهيز هو فن الفكرة بامتياز. وبالعودة الى لوحاتها المتنوعة التي قدمتها في مراحل سابقة، نجدها قدمت نتائج وخلاصة اختبارات تجربة فنية، دمجت فيها ما بين عوالم اللمسة العفوية والغنائية والشاعرية البصرية، التي تتبع إيقاعات العناصر والبنى المعمارية والطبيعية والأشكال الأخرى، وبالتالي جمعت في لوحاتها ما بين الشاعرية المتلاشية للون المائي، وبين الغنائية البصرية في الزيتيات، مؤكدة في كل مرة على حركة المشاعر الداخلية، في خطوات صياغة المناخات الونية، والمفردات التشكيلية، وهذا يعني أن تجربتها كشفت عن تنويعاتها تعبيرية، وعن تنقلها بين ماهو مرسوم وبين ما هو مجسد في الابعاد الثلاثة.
بين التسطيح والتجسيم
هكذا عملت على اظهارالعلاقة التشكيلية المتبادلة والمتداخلة، بين الشكل المحسوس في اللوحة والشكل المجسد في الفراغ في اعمالها التركيبية. حتى انها كانت تتجه في احيان كثيرة، نحو مظهر اضفاء المزيد من الاختصار والاختزال في صياغة عناصرها ومواضيعها الواقعية، لإبراز صيغ التحاور البصري بين مساحات متجاورة ومتداخلة بحرية تتخطى الرؤية الخارجية، الموجودة في الصورة التقليدية، وتجعل الحوار البصري اكثر اتجاهاً نحو المزيد من العفوية والشاعرية. وفي استخدامها للتقنيات الفنية الحديثة وللمظهر التشكيلي المعاصر ابرزت رغبة، في إعادة صياغة البيوت القديمة، عبر تأليفات تشكيلية تتبع ايقاعات البني الأفقية والشاقولية، بنى فنية لا تنفصل عن الأجواء المعمارية العربية، وخاصة الدمشقية، وذلك لتحقيق حالة من التداخل بين الأحلام الشرقية والتقنيات الغربية، وبين الماضي والحاضر، ففي هذه المجموعة من لوحاتها، سعت للوصول بالتأليف التشكيلي الحديث، إلى تداخلات تقنية وفنية وجمالية تعبر عن روح الهندسة المعمارية القديمة، فاللوحة هنا تستعرض إيقاعات البيوت أو تصوغها بمزيد من السطوح والمساحات، لبلورة المظاهر المميزة لإيقاعات البنى المعمارية المحلية.
وهذا يعني أن لوحاتها تنفلت من برودة الصياغة الصالونية الجاهزة، كونها تبتعد في الأساس عن الوسائل التصويرية التقليدية، وتنحاز أكثر فأكثر نحو النسيج البصري الحديث، الذي يظهر تداخلات اللمسات والسطوح العفوية، ضمن صياغة فنية بعيدة عن أي انفلاتات ارتجالية وعبثية، فهي تعتمد التدبير في الكشف الصريح عن الانفعال الداخلي، من خلال المعالجة اللونية،التي تجعل الاضاءات تظهراحياناً على أرضية خافتة أو معتمة، بحيث يمكننا ملاحظة المساحات أو اللمسات اللونية والضوئية، مسبوقة بطبقات لونية تميل إلى السواد أو التعتيم الذي تراه العين ضمن إطار اللوحة (ولاسيما في لوحات البورتريه المنجزة باللون المائي).
facebook.com/adib.makhzoum