بعد أن أكمل مسيرته الشعرية المظفرة، في غفلة عن عيون النقاد العرب، الذين تأخروا كثيراً، دون مبرر، في دراسة شعره المشحون بالحزن السرمدي النبيل، والوجع الإنساني عبرعصور التاريخ..
فضلاً عن القهر الذي يمزق الروح ويودي بها إلى الخواء، علي الجندي غادرنا بصمت، كما عاش سنواته الأخيرة بصمت في اللاذقية بعيداً عن وسائل الإعلام والصخب والمشاكسات، والسهر الليلي مع الأصفياء والأصدقاء المخلصين، حتى صياح ديك عمر الخيام معلناً هروب الظلام، كما كان يفعل ذلك في دمشق وبيروت والقاهرة.
علي الجندي الذي أحببناه وأحبنا، هو واحد من جيل الرواد الكبار، الذين كتبوا أروع القصائد وأبعدها خلوداً وأشدها تأثيراً في وجدان المتلقين من متذوقي شعره، ولاغرابة في ذلك فقد كانت أشعاره بصورة عامة، تنبض بالدفء والحب الخالص للوطن والأرض، والحضارة والتراث المضيء، وتموج أيضاً بحب الناس البسطاء الأنقياء أينما وجدوا، وهاهو في هذه الأبيات المؤثرة يصور لنا هواجس القلب وصبابات النفس ولواعج الفؤاد والتماهي مع الوطن إلى حد التماهي به:
أنا وطن مثخن بالجراح
وأنتِ.. بلا وطن فاسكنيني
أملح جسمك من تربتي
وأحني يديك بماء عيوني
تقيمين في وطن متعب فيواسيه أنك فيه
لاتحزني أن جسمي رمل وجسمك ريح ونار
لسوف يصير نخلاً
قصائد مكتوبة بالدم الذهبي على الرمل
حاول الراحل الجندي أن يواسي حياته، وحده، بالحلم فقط، لكن أحلامه الأثيرة على قلبه أضحت كوابيس فيما بعد، أثمرت عن سلسلة من الفجائع والانكسارات، والهزائم في ليل دنيا العرب:
طال نومي بعيداً عن النوم
طالت كوابيسي النافرة
أنقب بين خيوط المطر
عن الأوجه النادرة
وعن وجهك المريا طفلتي
وعن كل شيء يباعدني عن قفاري القديمة
وخلاصة القول.. فقد كانت حياته مدهشة ورومانسية وصاخبة.. فهو يبقى في حالة صحو على طريقته، حتى تتوهج بداخله وفي حنايا أضلعه، شمس المعرفة، عندها يكتب الشعر دون مخطط أو تصورات مسبقة لما سيقوله، فيشعر بالطمأنينة ويتذوق برد اليقين..
كان يحيا خارج جسده ككل الشعراء الذين لايعرضون ماتجود به أقلامهم المبدعة على الفضائيات التي تجزل العطاء، على حساب رسالة الشعر العظيمة.
وذلك لسبب يتلخص بأنه وجد في الشعر، وحده، متنفساً له كرئة ثالثة، في زمن استهلاكي تحجرت فيه المشاعر والأحاسيس:
أصرخ:
لايخرج صوتي من حلقي
عطشان
وأمد يدي نحو الريح والشمس
عطشان..
من يمنحني قطرة ماء؟!.
يزعق صوت في الأرجاء
ستموت وحيداً عطشان..