وفي ضوء تطور سياسة الحلف باتباع نظرية «الأمن الناعم» أو «القوة الناعمة» في تعامله مع المتغيرات والأحداث الجارية والمستقبلية منها، جدير بالذكر أن تأسيس الحلف تم في ظروف الحرب الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعدما أطلق ( ونستون تشرشل) صيحته المشهورة في عام 1947 بإعلان الحرب ضد الشيوعية من جانب مايسمى آنذاك دول العالم الحر، إلاأن الحلف تطورت استراتيجيته في التسعينيات من القرن الماضي بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء نظام القطبية الثنائية، حيث امتد نشاطه إلى دول أوروبا الشرقية وحيث ضم إليه العديد من دولها، وأقام قواعد صاروخية في بعضها كما حصل في التشيكيا وبولونيا.
كذلك تطورت استراتيجية الحلف من الردع في حال حصول تهديد لإحدى دول الحلف إلى المبادرة والهجوم للدفاع عن المصالح الجماعية خاصة بعد تأسيس تشكيلات للتدخل السريع في حال اندلاع أزمة تمس مصالح أعضاء الحلف بما في ذلك دول حوض البحر المتوسط.
والآن كيف تعامل حلف الناتو مع المنطقة العربية؟
قام الحلف بمبادرتين أساسيتين إزاء المنطقة العربية هما :
- الأولى : تجسدت بفتح حوار مع سبع دول متوسطية عام 1994م هي: المغرب - تونس- مصر - موريتانيا - الجزائر - الأردن وإسرائيل تحت شعار محاربة تهديدات محتملة لدول الحلف منها: الإرهاب الدولي والهجرة غيرالشرعية وتجارة المخدرات .
-المبادرة الثانية: انطلقت من اسطنبول في حزيران العام 2004م تحت اسم رد مبادرة التعاون الاستراتيجي انضمت إليها كل من الكويت - الامارات العربية- البحرين - قطر ، وتضمنت مكافحة الإرهاب الدولي وحماية أمن الحدود والتصدي لانتشار السلاح النووي، ومجابهة حالات الطوارئ وإدارة الأزمات وتعزيز التعاون العسكري.
وجاءت بعد الحملة الدولية للحرب على الإرهاب /غزو أفغانستان، ثم احتلال العراق ، هذان الحدثان اللذان تركا ردود أفعال حادة إقليمياً ودولياً فلجأ الحلف إلى إطلاق مبادرة في إطار نظرية الأمن الناعم، عبر تدريب وتأهيل القوات العسكرية في أماكن الوجود العسكري الأميركي، وهذا ماحاولت الاتفاقية الأمنية العراقية- الأميركية أن تعكسه في العام 2008م بنقل صيغة الاحتلال العسكري إلى صيغة احتلال تعاقدي، وهو ماتسعى الإدارة الأميركية الان إلى التأكيد عليه في اتفاقية جديدة بانتهاء العام 2011م أو عبر توقيع عدة بروتوكولات واتفاقيات ثنائية بين وزارات عراقية ونظيراتها من الوزارات الأميركية دون الحاجة إلى اللجوء إلى البرلمان العراقي لإبداء الرأي فيها، وذلك تجنباً لأي إشكالات قد لاتحمد عقباها إذ إن مثل هذا المخرج مطروح للدراسة كبديل عن اتفاقية جديدة بين بغداد وواشنطن.
ومن تطبيقات استراتيجية نظرية الأمن الناعم اشتراك بعض دول الحلف في التحالف الدولي عام 1991م في إطار عملية تحرير الكويت وتدمير العراق وفرض الحصار الدولي ونظام العقوبات عليه 1991-2003 .
أمابالنسبة لتدخل حلف الناتو في أحداث ليبيا في العام 2011م فهوشأن آخر يتعلق بتوسع مفهوم التدخل في استراتيجيات الحلف.
وقد استند الحلف في تدخله العسكري في ليبيا إلى ماأسماه مرجعية إقليمية ودولية انطلاقاً من قراري مجلس الأمن رقم 1970و1973 لاسيما باتخاذ عقوبات ضد ليبيا وإحالة معمر القذافي إلى المحكمة الجنائية الدولية وإقامة منطقة حظر جوي للطيران، وبعد أن اتخذت الجامعة العربية قرارها رقم 7298 تاريخ 2آذار 2011م الذي طلبت فيه من مجلس الأمن تحمل مسؤولياته إزاء ما أسمته تدهور الأوضاع في ليبيا وتحت ستار حماية المدنيين، الأمر الذي جعل حلف الناتو يتخذ إجراءاته للتدخل العسكري والذي هو في حقيقة الأمر بعيد كل البعد عن مبدأ التدخل الإنساني أو لأغراض إنسانية ، علماً بأن هذا التدخل ضاعف من معاناة السكان المدنيين من مختلف النواحي وهدم البنية التحتية الليبية ، وهذا ماأثار بدوره إشكالات قانونية وعملية على أرض الواقع.
لقد أدى هذا التدخل العسكري لحلف الناتو في ليبيا إلى زيادة الهجرة غير الشرعية إلى الدول الأوروبية ، وإلى ازدياد وتوسع نشاط تنظيم القاعدة في دول المغرب العربي وفي اليمن، وهذا ماأشار إليه جيمس ستافر يديس قائد قوات حلف الناتو لدى تقديم شهادته أمام مجلس الشيوخ الأميركي.
وقد انعكس ذلك كله على تهديد أمن الطاقة وانقطاع إمدادات الموارد الحيوية وارتفاع أسعار النفط...
في ضوء ذلك كله، من الواضح أن وحدة ليبيا كدولة موحدة مهددة تهديداً فعلياً، في ضوء التمترس الميداني القائم فيها حالياً ، وحزازات قديمة ومنافسات بين القبائل غير مشروعة، وهذا ماينسجم مع المخططات الغربية - الأميركية ومحاولات الناتو إعادة ولاية برقة التي كانت تحت الهيمنة البريطانية وولاية فزان التي كانت تحت الهيمنة الفرنسية وولاية طرابلس التي أقامت فيها الولايات المتحدة قاعدة عسكرية إلى نفوذ الناتو، وذلك في محاولة منه لإدانة نفوذه وإطالة وجوده في ليبيا، وبالتالي تحقيق المصالح الأميركية والغربية فيها.
لقد بات من المؤكد أن الحلف سيطالب الحكام الجدد في ليبيا بتعويضات مجزية وبالحصول على امتيازات ومكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية .
باختصار فإن تجربة الناتو لاستراتيجية الأمن الناعم في ليبيا ستتكرر في بلدان عربية أخرى كلما أمكن ذلك.